غدت بيروت، أو ربما هكذا هي على الدوام، طاولة جوالة بملفات كثيرة، كأنها تتسع لأحوال الكوكب وأهواله… كانت في باريس مع رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي يعارك لسد «الثقب الأسود» وشبح ابتلاعه بقايا الاستقرار المالي في لبنان، وحطت في نيويورك مع مشاركة رئيس الجمهورية ميشال عون في أعمال جمعية عامة لأمم متحدة، تختلط عليها الخرائط بعدما تمددت طهران إلى بيروت.
فوق طاولة بيروت وتحتها عواصف هوجاء وقنابل موقوتة وأصابع مرفوعة وسيناريوهات، إما قاتمة أو قاتلة، وأفق كأن لا أفق له في بلاد تتوغل بعيداً في ألعاب خطرة تفقد معها شبكات الأمان، وفي منطقة عائمة فوق بركان كأنه على قاب قوسين من انفجار لن ينجو منه أحد في الإقليم المشلع الأبواب والخرائط والأحلام.
على طاولة بيروت وتحتها «محليات» يساورها قلق صار الحاكم بأمره… شحّ لا سابق له في الدولار «المحلي» وعسر هضم كأنه أزلي في الكهرباء وكلام منتهي الصلاحية عن غول الفساد وتهيب بلا طائل لمؤشرات الانهيار وتنظيم رحلات جماعية للهجرة كأنه الفرار قبل سقوط الهيكل وخطاب كريه تفوح منه الكراهية حتى بدا لبنان الذي كان… في كسوف عميق.
وفوق طاولة بيروت وتحتها «خارجيات» صارت من حواضر البيت مع «خيمة الخامنئي» التي زج لبنان بها، ومارشال بيلنغسلي الآتي مع عصا العقوبات، و«سيدر» الذي لا يقيم وزناً لوعود كأنها دجل أو زجل، و«أرامكو» وما أدراك ما بعدها… ولعبة المفاضلة بين بنيامين نتنياهو وبيني غانتس، وربط الساعة بصندوقة الرئيس دونالد ترامب الانتخابية.
هذه الطاولة بما فوقها وتحتها حلّت في معراب، مقرّ رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع. أما حولها فكانت جلسة تفكير على صوت عال ضمت مجموعة من الصحافيين وشاركت فيها «الراي».
«الحكيم» الذي غالباً ما يتم التعاطي معه على انه «عقل استراتيجي» وصاحب رؤية ثاقبة، بدا غير مرتاح لمآل الأمور في لبنان «مش قادر شوف لبعيد بصراحة».
وقدّم جعجع قراءة لواقع المنطقة والوضع اللبناني وتشابُكه معه في الجانب الاستراتيجي، إضافة الى «مصائب البيت اللبناني بعواملها المحلية».
وأكد «ان الوضع في المنطقة يغلي، ولا نعرف ماذا سيحصل، ومن الآن الى ستة أشهر او سنة لن تبقى موازين القوى على حالها»، محذراً من الكلام المتكرر للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله حول ان الحزب لن يقف مكتوفاً بإزاء أي حرب على إيران.
وقال: «تصوّروا الى جانب كل مشاكلنا ان يتم إدخالنا في ورطة عسكرية، فما الذي سيقيمنا بعدها؟ ولماذا يُزج بلبنان في حرب من اجل إيران؟ لا أحد يمكنه إلزام الشعب اللبناني بما لا علاقة له به»، ومضيفاً: «لم يبق شيء في البلد على المستوى السيادي، وأيام الرئيس ميشال سليمان كان الأمر أفضل على هذا المستوى، وعلى الأقل كان يسعى».
وتابع: «في لبنان رئيس جمهورية ورئيس حكومة وحكومة، هل يسمعون ما يقال؟ وكأن الدولة لا وجود لها، وهذه أكثر مرحلة يصول فيها حزب الله ويجول، والدولة تساهم في تغطية مبادرات وخيارات الحزب (…) ان رئيس البلاد لديه مسؤولية دستورية على هذا الصعيد، وأين رئيس الحكومة من هذا الكلام؟ المطلوب القول لقيادة حزب الله ان الأمر غير مقبول وأنه لا يمكن التصرف بمصير اللبنانيين، ولا يجوز أن يبقى قرار الحرب والسلم خارج الحكومة».
ولم يتوان جعجع عن قول «وكأن الأمور متروكة وكأن هناك مَن لا يرى الأزمات الكبرى»، متحدثاً عن «ممارسات يندى لها الجبين بالخنفشارية في ممارسة السلطة».
ونبّه في هذا الإطار من الواقع المالي – الاقتصادي ومساره، واصفاً إياه بأنه «ما بيسوى والرئيس سعد الحريري يحاول، وربما ينجح في استقطاب وديعة» بما يؤجل استحقاقات قاتمة قد تنزلق اليها البلاد ما لم يتم اتخاذ الخطوات لتغيير جذري. ويقول: «الوضع على صوص ونقطة، والناس مخنوقون كما لم يكونوا أيام الحرب وحين تدهور سعر الليرة».
وأكد «ان مشروع موازنة 2020 لا يتلاءم مع الوضع المالي والمسار المطلوب لوقف التدهور، وهي موازنة عادية لأيام عادية، فيما المطلوب خطوات إصلاحية فورية، والقوات اللبنانية قدّمت ورقة عمل كخريطة طريق اصلاحية في بنود عدة وإذا لم يتم الأخذ بها فلن نمشي بالموازنة»، مضيفاً: «الموازنة في ذاتها لن تؤدي الى نتيجة والمطلوب الانتقال الى حال طوارئ، والثقة باتت مفقودة بالدولة في الداخل والخارج».
وكرر المطالبة بحكومة تقنيين من 14 أو 18 وزيراً من الأكفاء وأصحاب الإنجازات، مثل كميل ابو سليمان وغسان حاصباني «نؤمن لهم مظلة سياسية، وخارج هذا الخيار او اعتماد الإصلاحات الجدية الفورية وفق خطة عمل القوات، لن نخرج من المسار الذي يمكن ان يوصل الى الخراب».
وشدد على ان «القوات» لن تخرج من الحكومة الحالية «فوجودنا فيها مسألة حسابات ونرى أنه أمر مفيد ويؤثر في بعض الأمور، ناهيك عن ان هذه حكومة وحدة وطنية، ومتى أرادوا حكومة أكثرية فنحن معها».
وإذ يصف الصورة بأنها «ليست وردية والأمور من سيئ الى أسوأ»، يرفض اعتبار ان لبنان متروك من أصدقائه «فليس مزحة ان يحصل لبنان على اكثر من 11 مليار دولار من مؤتمر سيدر، شرط ان نقف على رِجلينا، فالمصيبة الأساسية داخلية. ومشكلة حزب الله ومنظومته تعطل نصف حيوية الدولة، وللأسف تقاطع ذلك مع ظروف جعلت النصف الآخر الذي يفترض ان يكون لديه حس الدولة مضروباً بالكامل، وهذا ما يعبر عنه الأداء الداخلي في ظل غياب الكفاية ورجالات دولة وكل المسار المعروف في إدارة البلاد».
وبدا جعجع مرتاباً من الطرح المفاجئ لقانون الانتخاب على بساط البحث ودعوة اللجان المشتركة (غداً) لمناقشته من دون ان يمر حتى على لجنة الإدارة والعدل، معتبراً «اننا أمضينا عشرة أعوام للوصول الى القانون الحالي، ولا أدري ما الحكمة من معاودة طرح هذا الملف الذي سيعيد التجاذبات والصراعات، ونحن من جهتنا لن نناقش في تفاصيله».
ورفض رئيس حزب «القوات اللبنانية» ما يقوله البعض عن ان الحزب الذي كان شريكاً في إيصال عون للرئاسة فشل وأنه خسر تحالفات ولم ينجح في تعزيز موقعه في الإدارة، مؤكداً «ان المقياس المعتمد في هذه المقاربة خاطئ كلياً ولسنا من أنصار لعبة الشطارة على الطريقة اللبنانية، فما يحكم أداؤنا هو المبدئية والاستقامة دعماً لمسيرة بناء الدولة، ونحن انتصرنا بحفظ مبدئيتنا ولم ندخل في المحاصصة لأننا مصرون على آلية شفافة للتعيينات (…) أما تحالفاتنا فأقوى من أي وقت، وعلاقتنا مع تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي راسخة وثابتة في الملفات الاستراتيجية والكبرى».