كتبت هديل فرفور في “الاخبار”:
غالبية المُستشفيات في لبنان «مُصابة» بأنواع مُختلفة من الجراثيم التي تستوطن أقسامها، خصوصاً في غرف العمليات والعناية الفائقة، وتؤدي أحياناً الى إصابة المرضى بمضاعفات تصل الى الوفاة. المشكلة عالمية وأسبابها متعددة، بدءاً من سوء التعقيم وخلل سياسة العزل ومشاكل التهوئة، مروراً بفوضى المضادات الحيوية، ووصولاً إلى استخدام بعض المعدات الطبية أكثر من مرة بهدف «التوفير». إلا أن الخطير، هنا، هو أن هذه المشكلة تبقى في الغالب طيَّ الكتمان حرصاً على سمعة المستشفى، علماً بأن الإقرار بعدد المصابين أول طرق المعالجة.
على المستشفيات في لبنان الاعتراف بوجود مشكلة تسلل البكتيريا واستيطانها في غرفها عموماً، وفي غرف العناية الفائقة خصوصاً، لأنّ هذه مُشكلة «عالمية»، وتكاد تكون «طبيعية»، وبالتالي فإنّ الإعلان عنها ضروري لمعالجتها وتفاديها.
هذه الخُلاصة الأهم التي يتفق عليها كل المعنيين بالملف الاستشفائي والطبي في لبنان، في ظل الجدل الذي أثارته حادثة إصابة أحد الأطفال الحديثي الولادة ببكتيريا من فصيلة «غرام نيغانيف» في مستشفى أوتيل ديو أخيراً، إذ يُجمع هؤلاء على أن غالبية المُستشفيات في لبنان «مُصابة» بأنواع مختلفة من الجراثيم، يتراوح مستوى خطورتها بين «الخفيف» و«الخطير جداً». إلّا أن كل المُستشفيات «تتكتّم» على الأمر، خوفاً من «الصيت» الذي قد يؤثّر على حجم «تدفّق» المرضى إليها. لذلك، تغيب الإحصاءات المتعلقة بعدد المصابين بجرثومة المستشفيات في كل مُستشفى، وفق رئيسة مصلحة الطب الوقائي في وزارة الصحة الدكتورة عاتكة برّي، مُشيرة إلى أن «عدم التصريح عن عدد الإصابات يحول دون مكافحة انتقال العدوى وتدارك المُشكلة».
التصريح ضروري، بحسب الاختصاصي في الأمراض الجرثومية الدكتور بيار أبي حنا، «لأن هذا الإجراء من شأنه أن يلزم المُستشفيات بأخذ مسألة مكافحة انتقال البكتيريا على محمل الجدّ»، لافتاً إلى أن هذا الأمر معتمد في دول العالم كجزء من التقييم العلني للمستشفيات بهدف تدارك تفاقم هذه المُشكلة التي باتت محاربتها من أولويات منظمّة الصحة العالمية.
مصادر البكتيريا
أسباب «ولادة» البكتيريا في المُستشفيات تعود إلى عوامل عديدة، أبرزها التعقيم والنظافة. بحسب رئيس نقابة المُستشفيات سليمان هارون، فإنّ «أهم» طريقة لنقل البكتيريا هي «عدم غسل اليدين من قبل الطاقم الطبي والعاملين في المُستشفى»، إضافة إلى أسباب أخرى، كالخلل في أنظمة التهوئة وسياسة العزل. وأكّد أن النقابة فعّلت مؤخراً بروتوكولات نقل المريض من مستشفى إلى آخر، «لأن نقل المريض من دون اتباع المعايير الوقائية المطلوبة يُمثّل واحداً من أهم أسباب انتشار العدوى وانتقالها». تفادي هذه المُشكلة، وفق هارون، يعود إلى كل مستشفى على حدة، إذ «إنّ في كل مستشفى لجنة متخصصة معنية بمكافحة انتقال العدوى»، لافتاً إلى مسؤولية كبيرة تقع على أهالي المرضى وزوّارهم الذين لا يتجاوبون مع تعليمات التعقيم وعدم إحضار النباتات وغيرها، مشدداً على أنه «لا يمكن التوصل إلى مكافحة نهائية لانتقال البكتيريا مهما بلغت درجة الرقابة والمتابعة والتعقيم».
إلّا أن المُشكلة في لبنان «ليست مشكلة تعقيم فقط، لأن مستوى التعقيم جيد»، وفق أبي حنا، لافتاً إلى أنّ التقصير يكون مرتبطاً أحياناً بالتوفير الذي يلجأ اليه بعض إدارات المُستشفيات «كإعادة استخدام معدات غالية الثمن بعد تعقيمها في حين أن هذه المعدات مصمّمة للاستخدام مرة واحدة»! بري، من جهتها، تؤكد أن بعض المُستشفيات، بهدف خفض الكلفة على المريض وعليه، يلجأ إلى الاستعمال المتكرر لبعض المعدات المصمّمة للاستخدام مرة واحدة، «كالنواضير التي تكون أحياناً مصدراً لنقل البكتيريا وانتشارها». ووفق مصادر مُطّلعة، فإن البكتيريا قد تستوطن أيضاً في الأنابيب التي تستخدم للتنفس الإصطناعي التي «تعمل بعض المُستشفيات على تعقيمها وإعادة استخدامها بدل التخلص منها كما يفترض».
وثمّة عامل آخر لا يقل أهمية يرتبط بـ«فوضى استهلاك المُضادات الحيوية التي لا تتناسب وطبيعة البكتيريا». وتوضح بري أنّ سوء ترشيد استهلاك المُضادات الحيوية يسهم بشكل كبير في إكساب البكتيريا مقاومة على الترياق الذي يكون مخصصاً لها، لافتة إلى «فوضى على صعيد مختبرات الأحياء المجهرية التي تساعد في تحديد نوع البكتيريا ونوع المُضاد الحيوي لها».
الاختصاصية في الأمراض الجرثومية الدكتورة ميرا جبلي تؤكّد، بدورها، أنّ تدارك هذه المُشكلة يكمن في شقّ منه في ترشيد استهلاك المُضادات الحيوية، «إذ غالباً ما لا يتم الالتزام بتعليمات الأطباء المختصين في ظل فوضى وصف المضادات الحيوية من قبل الأهل والصيادلة»، لافتة إلى ضرورة اعتماد سياسات عزل محكمة لضبط انتقال العدوى. وتوضح أن هناك أنواعاً عديدة من الجراثيم في المستشفيات اللبنانية، منها: Acinetobacter baumannii، Pseudomonas aeruginosa،MDR ،XDR،CRE، وهي من فصيلة «غرام نيغانيف»، مُشيرة إلى أن بعض الجراثيم في مُستشفيات العالم أخطر بكثير، «ولكن هذا لا يعني أن هذه البكتيريا لا تشكل خطراً على مرضى العناية الفائقة».
ويعدّ مرضى العناية الفائقة الأكثر تعرّضاً للإصابة بجرثومة المستشفيات، بسبب هشاشة وضعهم الصحّي، ما يجعلهم أكثر عرضة لمضاعفات تصل إلى حدّ الوفاة. هذا من جهة. أمّا من جهة أخرى، فإنّ البكتيريا قد تستوطن أحياناً في الأنابيب التي تستخدم للتنفس الاصطناعي التي «لا يتم رميها أحياناً في بعض المُستشفيات ويتم تعقيمها وإعادة استخدامها»، وفق مصادر مُطّلعة.
إجراءات «الصحة»
تؤكّد رئيسة مصلحة الطب الوقائي في وزارة الصحة الدكتورة عاتكة برّي أن وزارة الصحة بدأت تعمل، بقوة، لمواجهة هذه المُشكلة، بعدما تفاقمت في السنوات الخمس الماضية بسبب سوء استخدام المضادات الحيوية وغيرها من العوامل. وأوضحت أن الوزارة بدأت مطلع هذا العام فحص الجودة لمختبرات الأحياء المجهرية داخل المُستشفيات لتتبع آلية زرع البكتيريا ورصد أنواع المضادات الحيوية المُستخدمة، وهو بات معتمداً في 80 مستشفى من أصل 130. «وهذا الفحص من شأنه أن يضبط أنواع المضادات الحيوية المستخدمة، ويراقب جودة الفحص وحجم تطابقه مع المضاد الحيوي، وهو بات إلزامياً على المُستشفيات، ما من شأنه أن يضبط فوضى المضادات الحيوية».
كيف يمكن القضاء على هذه البكتيريا؟
تختلف أساليب القضاء على جراثيم المستشفيات باختلاف مستوى خطورتها وحجم انتشارها. وهي تتنوّع بين التعقيم بالغاز مروراً بإقفال الوحدات والأقسام، وصولاً إلى هدم المستشفى كلياً. و«الأمر متوقف على حجم تموضع البكتيريا. أحياناً قد تستوطن على الجدران أو في أجهزة التهوئة أو على ثياب الطاقم والعاملين»، بحسب الاختصاصية في الأمراض الجرثومية الدكتورة ميرا جبلي.
رئيسة مصلحة الطب الوقائي في وزارة الصحة الدكتورة عاتكة برّي، من جهتها، تؤكد أنّ هذا «الحل متشعّب: على المستشفيات نشر عدد الإصابات لتداركها؛ التوعية الصحية حول التعقيم وغسل اليدين من قبل جميع العاملين والطواقم الطبية والزوار؛ ترشيد استهلاك المضادات الحيوية عبر تطبيق قانون ضبط وصف المضادات الحيوية إّلا من قبل المختصين».
وفيما يشدّد الاختصاصي في الأمراض الجرثومية الدكتور بيار أبي حنا على ضرورة تولي وزارة الصحة مراقبة التزام إدارة كل المُستشفى بمكافحة انتقال العدوى، تلفت بري إلى أن هذا «يستوجب جيشاً من الموظفين، وهو أمر صعب». ولفتت الى أن الوزارة في صدد إعداد برنامج وطني إلزامي لمكافحة خطر انتقال عدوى البكتيريا. ولكن، ماذا عن نشر نسب الإصابة؟ «هي خطوة بعيدة… لكنها ليست مستحيلة»، وفق بري.