كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
فخذ الدجاج “بالرخص”، بألفٍ، ويا مين يشيل. وكرتونة البيض بأقلّ من ألفي ليرة وصولد اللحوم يلفت الأنظار. فهل هي حروبُ دجاج ولحوم وبيض أبيض وأسمر وتكسير أسعار أم هي حربٌ إقتصادية تٌكسّر (على طريقها) أسعار اللحوم البيضاء والحمراء؟ نأكل أو لا نأكل؟ وهل نضع أصابعنا في المياه المثلّجة مردّدين: “على الله التدبير”؟
جدي يا جدي…
كان جدي أبو نقولا لحاماً وهو عاش نباتياً لأنه أكثر العالمين أن “اللحام يغش حتى أهل بيته”! فلنسأل أصحاب مزارع الدجاج واللحامين عن أسباب بيع أحد المحال في الأشرفية الأسبوع الماضي كيلوغرام فخذ الدجاج بألف ليرة فقط لا غير؟ وهل يربح من يبيع كيلوغرام لحم الشواء “فوفيليه” بعشرة آلاف ليرة فقط لا غير؟ وهل نأكل بيضاً طبيعياً في كرتونة من ثلاثين بيضة بسعر 1900 ليرة لبنانية؟
في قلب بيروت، في شارع الدنا، عند مدخلٍ يقودنا الى قلبِ صبرا، سوق للحوم كتب عند مدخله: “رزق الله على أيام سوق النورية كان من أحد رموز الوحدة الوطنية”. كتب العبارة صاحب شركة تجارة اللحوم والمواشي الحاج سميح الناطور. اللحوم معلقة. والبيع “عال العال”. الحاج سبق وقُبض عليه بتهمة “قتل اللبنانيين” عبر الإتجار بلحوم منتهية الصلاحية. سُجن أربعة أشهر وعشرين يوماً. وهذا ما يجعله أحد أفضل من يمكنهم إخبارنا، من خلال تجربته، عن طبيعة اللحوم التي نأكلها اليوم.
ماذا نأكل؟ هل هناك فلتان في الأسواق؟ لماذا الأسعار تتفاوت بهذا القدر؟ هل هي أزمة إقتصادية أم فائض دجاج ولحوم أم أمر ثالث نجهله؟ ولماذا سُجن الحاج وكيف خرج، أقوى؟
ينفي تاجر اللحوم أن يكون قد تاجر باللحوم الفاسدة ويقلب بين أوراقٍ ومستندات متحدثاً عن إتفاقٍ بينه وبين الجمارك لوضعِ اللحوم المهربة الى لبنان، التي يكون الجمارك قد قبض عليها. وضع القيمون على الجمارك هذه اللحوم في مستودعات الحاج ونسوها. وحين داهم من داهموا مستودعاته وجدوا “لحم الجمارك” ولحوم كانت لدى الحاج وتنتهي في غضون 15 يوماً. وهذا طبيعي جداً. كل “الأوفرات” (العروضات) في السوبرماركت هي للحوم شارفت صلاحيتها على الإنتهاء. ويوم أقفلت مستودعاته دفع الثمن مضاعفاً. خسارة هائلة.
يندرجُ كلام الحاج في صيغة “كان يا ما كان”. ماذا عن اللحوم التي نتناولها اليوم؟
يجزم تاجر اللحوم أن اللحوم المستوردة تكون صالحة مئة في المئة وإذا تلفت يكون هذا لسببين: عدم خبرة اللحام أو أن الماشية المذبوحة مريضة.
من المسؤول في لبنان عن سلامة اللحوم: وزارة الإقتصاد؟ البلديات؟ وزارة الزراعة؟ الصحة؟ هناك تشابك واضح للصلاحيات في القطاع. هناك من فكر قبل عقود في إنشاء “وكالة التغذية” التي يفترض أن تضم ممثلين عن كل الوزارات المعنية بالغذاء. والحاج سبق وقدم مشروعاً شاملاً للحكومة اللبنانية تنفيذه يحمي من وجود أي لحوم ملوثة أو فاسدة أو منتهية الصلاحية.
هناك من فكر وفكروا وفكرنا لكن يحدث غالباً في لبناننا ما نظنه لن يحصل.
يذبحُ تاجر اللحوم ماشيته في مسلخي الفنار والشويفات. ويخبر: نستورد اللحوم من البرازيل (بنسبة 80 في المئة) ومن كولومبيا والباراغواي أما الصين، التي كان يستورد منها لبنان، فباتت تستورد هي أيضاً من البرازيل. أما من هولندا فنستورد “البقورات” الحيّة التي تدرّ الحليب. ويربي لبنان الماشية، من أبقار وأغنام، بما لا يزيد عن 10 في المئة من حاجات لبنان الإستهلاكية. اتكالنا إذا على الإستيراد.
هل اللحوم المستوردة من البرازيل مراقبة من بلاد المصدر؟ أي نوعية علف تأكل المواشي التي نأكلها؟ من يؤكد لنا أن المواشي البلدية الحية لا تُحقن بالمضادات الحيوية خوفاً عليها من المرض والموت؟ ومن يضمن أن اللحوم التي نأكلها غير مشبعة بالمضادات الحيوية في كبدها ولحمها وحليبها؟
أسئلة كثيرة نطرحها على تجار اللحوم في لبنان وعلى مصلحة حماية المستهلك والأجوبة، بغالبيتها، تُطمئن. لكن هل علينا ألا نشك؟
الفحوصات زمان كان الطبيب البيطري المراقب يضرب بالسكين على طرف الفخذ، المعلق في المسلخ، فإذا ظهر الدود يأمر بعدم تسليم الذبيحة الى اللحام وتوضع في براد المسلخ الشديد الصقوعة. ويعاد الكشف عليها بعد سبعة أيام فإذا ظهر خلوها من الدود يُسمح بإخراجها بعد دفع رسم البراد.
تصل اللحوم المبردة من بلاد الإستيراد الى مرفأ بيروت في مستودعات توضع في الحجر الصحي ويأخذ الطبيب البيطري عينات منها يرسلها الى المختبر حيث تخضع لتحاليل دقيقة وتصدر فيها شهادة صحية. وتُقرن هذه اللحوم مع شهادة “ذبح حلال”. وشهادة أخرى تبين نسبة الديوكسين وتاريخ الذبح والإنتاج والصلاحية. كلّ شيء واضح على الورق. لكننا نريد أن نعرف لماذا سعر كيلوغرام اللحوم “بالرخص”؟
الحسومات مع قرب انتهاء الصلاحية
يستورد لبنان كيلوغرام لحوم الأبقار من البرازيل، واصل الى مرفأ بيروت، بستة دولارات من دون جمرك. وتزاد عليه الأرباح بعد تقسيمه الى بفتاك وفخذ وما الى هنالك، ويمكن للحام إذا شاء أن يكتفي بنسبة أرباح بسيطة أو بأرباح أكثر. البارحة، عرف أحد تجار اللحوم أن نحو طنين من اللحوم في مستودعاته ستنتهي صلاحيتها خلال ثلاثة أيام فاتصل بالموزع طالباً منه الطلب من أحد السوبرماركات في بيروت عرض حسومات على اللحوم. تكتيك. والسؤال، ماذا لو انتهت صلاحية هذه اللحوم في براداتنا؟ هل تصبح فاسدة؟ يجيب التاجر: إذا وضع في درجة حرارة بين 18 و25 تحت الصفر يبقى صالحاً مدة سنة وأكثر. ويستطرد: رأيتُ لحوماً مثلجة في قبرص منذ 16 عاماً وفي إسبانيا يقفون “بالدور” من أجل أن يأكلوا لحم “الستيك” عفناً. لا عمر للحوم إذا وضبت في شكل مناسب عكس الفراريج ذات العمر القصير.
فلنتحدث إذا عن “الفراريج” التي تباع بالرخص.
مالك سابق لأحد مزارع الدجاج في عكار غازي الياس يتحدث عن أسباب تراجع الأسعار: هناك تهريب للدجاج من بلدان مجاورة ولا مخطط توجيهياً لحاجات لبنان الإستهلاكية ما جعل العرض أكثر من الطلب. وكان لبنان، زمان، يُصدر الدجاج الى مصر أما اليوم باتت هناك مزارع في مصر. أصبح لديها إكتفاء ذاتي. ويستطرد: كانت تربية الصيصان مربحة أما اليوم فباتت مفتوحة على مشاكل لا حلول ظاهرة لها. وهناك تجار كبار “يقبضون” على السوق ويحددون الأسعار كما يشاؤون.
ما رأي موزع الدجاج إيلي نجار؟ يجيب: الإستهلاك انخفض والإنتاج المحلي ارتفع والتهريب “ماشي” والسياحة “بالويل”.
هل نفهم من هذا أن تراجع السياحة هي التي تؤثر أيضاً على سوق اللحوم والدجاج؟ يجيب نجار: المطاعم تطلب”جوانح”وصدر الدجاج، الأغلى ثمناً في الفروج، لم يعد مطلوباًٍ كما في السابق أما فخذ الدجاج الذي تطلبه أكثر الطبقة الشعبية فحالها أيضاً بالويل وتحتاج الى حوافز لتشتري. وحين ينخفض السعر تشتري بدل الكيلو الواحد إثنين.
تُحسب الدجاجة كاملة عند تحديد السعر. ويُشكل الفخذ نحو 45 في المئة من حجم دجاجة كاملة والصدر نحو 27 الى 28 في المئة والجانح نحو 12 في المئة. و”الهوا” ( تشيكن) هو من يُحدد بورصة سعر الدجاج. هو الأقوى في سوق الدجاج. ويُشكل وحده 60 في المئة من السوق. أمس سعّر “الـهوا” كيلو الدجاج 1650 ليرة يعني من يبيع بألفي ليرة يكون رابحاً ومن يبيع بسعر أقل يربح أقل ومن يريد أن يحرق سواه قد يبيع بألف ليرة. الدجاج مثل البورصة. وهناك عشرات المزارع في لبنان، أكثر من حاجاته الفعلية، تعمل لمصلحة شركتين أو ثلاث في تربية الصيصان التي تعاد الى الشركات الكبرى بعد أن يُقدم لها العلف والطعام. وهي تأكل العلف المخلوط بعظام السمك والصويا والذرة.
ثمة أمرٌ آخر وراء “تكسير” أسعار الدجاج “هاليومين” هو أن مؤسسة الجيش اللبناني تستهلك أطناناً منه أسبوعياً وهذا، كما تعلمون، تراجع.
نعود الى تهريب اللحوم من سوريا والتي تُعرف من لون اللحم الأبيض. هل من معلومات إضافية؟ يبدو أن الغنم يُهرب من سوريا الى لبنان أما الأبقار فتُهرب من لبنان الى سوريا. فالأغنام أغلى ثمناً والشعب السوري أكثر فقراً.
في كل حال، ليست هناك ماشية تشبه سواها. في بريطانيا وبلجيكا، بحسب التاجر سميح الناطور، تحقن الماشية بإبر فيتامين لتسمن ويزن بعضها أكثر من 120 كلوغراماً أما في اليابان فيُخلط العلف مع البيرة ويباع الكيلو الواحد هناك بأكثر من 200 ألف ليرة ويصل سعر كيلوغرام لحم الماشية الأسترالية “المعلوفة” جيداً و”المرتاحة” الى 300 ألف ليرة. يبدو أنه حتى الماشية في بلاد العالم تُعطى فسحة راحة أكثر من لبناننا.
أعود الى كلام الجدّ أبو نقولا الذي حكى عن غش هائل في اللحوم. فماذا في خفايا “المصلحة”؟
رش وحقن
يُحكى عن مواد ترش على اللحوم المجلدة منعاً للرائحة. وعن مادة مونو صوديوم كلوتاماد توضع على لحوم الهمبرغر الجاهزة تؤدي الى تكاثر انبعاثات الريق في الفم فينظفه ويبعث الإحساس بالجوع ويؤدي الى تدني القدرة على التركيز وخسارة الذاكرة. ويُضاف على اللحوم النيئة مادة النيتريت لتحافظ على اللون الزهري فترة أطول وهي خطيرة وتؤدي الى الشلل.
ثمة أمر آخر، أهل بيروت القديمة تناولوا لحم الحمير باعها اللحام على أنها لحم بقر. والمقانق والسجق تُلغم بلحوم عتيقة، قديمة، ملغومة بالبهارات وجوز الهند والكزبرة.
الجميع يغشون. بائع الخضار يضع جنب الميزان حبوب ليمون باب ثالث وحين ينقص كيلوغرام الليمون باب أول حبة أو إثنتين يضع “الباب الثالث”. إحتراف في الغش. خرطوم البنزين مربوط بما يُشبه “الفرد” (المسدس) يمسكه العامل ويشد عليه ومع كل كبسة تقل كمية البنزين التي تدخل الى خزان الوقود. ذكاء في الغش.
نباتيون؟ قد تكونون… نجوتم…
تشبه البروتينات الحيوانية بروتينات الإنسان ومن يأكل لحم الحيوان ليعمر خلاياه يكون كمن أكل نفسه. وإذا كان المبرر من تناول اللحوم التزود بالطاقة والقوة فالفيل من أقوى الحيوانات البرية ولا يأكل اللحوم إطلاقاً بل يستمد قوته من الحبوب والأعشاب. أما الأسد فينام أكثر من عشرين ساعة يومياً لأن عملية هضم اللحوم ترهق جسده أما الغزال الذي يأكل الحشائش فينام ست ساعات يومياً فقط.