حماده والصايغ استعادا عبر «الراي» علاقته المميّزة مع «بلاد الأرز» و… بلاد العرب
ربما كان لبنانياً أكثر من اللبنانيين، وعربياً أكثر من العرب أنفسهم في السياسة الخارجية… هو جاك شيراك الرئيس الفرنسي الذي رحل عن 86 عاماً، السياسيّ الديغولي الذي فهِم الشرق الأوسط أكثر من غيره من الرؤساء الأوروبيين أو رؤساء العالم، وكان بعيد النظر في ما خصّ تطلّعات فرنسا، الدولة الكبرى والمؤثّرة، إلى صوغ سياسةٍ خارجية مع الخليج والمشرق والمغرب العربي مبنيةً على الانفتاح والتفهّم والمساعدة لإحقاق الحق من العراق إلى فلسطين إلى لبنان.
كان صديقاً مميزاً للبنان، دافَع عنه وعمل على المحافظة عليه بلداً حرّاً سيداً مستقلاً وديموقراطياً، وسعى إلى حماية صيغته التعدّدية الفريدة بعيداً عن سياسات «الإلحاق» بالنظاميْن السوري والايراني، وصوْنه من «أطماع» الأقربين والأبعدين.
«… لا يمكننا ترْك الديموقراطية تُخنق في لبنان». هذا ما قاله شيراك لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس العام 2004، مطالباً بتنفيذ القرار 1559 لإضعاف صقور النظام السوري في دمشق «لأن ليس لنا أي مصلحة برؤية قوس شيعي يمتدّ من طهران الى (حزب الله) مروراً بالعراق وسورية».
بهذا الوضوح كان شيراك، الذي لعب دور رئيسياً في توفير «حاضنةٍ» خارجية لإنهاء «التفويض» الدولي الذي كان جرى بموجبه «تلزيم» لبنان لدمشق ووضْعه تحت «الوصاية السورية»، يقرأ التطورات في البلد الصغير ويسعى دولياً الى حمايته من تهديدات الرئيس بشار الأسد الذي وصفه الرئيس الراحل في الجزء الثاني من مذكراته «الزمن الرئاسي» الذي نشرته دار «نيل» بـ«الطاغية» الذي لا يعي التغيير من حوله ويكتفي بالإساءة إلى جيرانه.
لقد ترسّخ شيراك في ذاكرة اللبنانيين، ذاك الرجل الذي في الحد الأدنى ساعَدَ ما عُرف حينها بـ«القوى الاستقلالية» لـ«التقاط اللحظة» الدولية في 2004 للدفْع نحو فكّ اليد السورية عن لبنان وربما يكون ساهم في «صنْع» هذا المفترق التاريخي مستفيداً من تَقاطُعات إقليمية ودولية وواقعٍ لبناني «على جهوزيّته» لتغيير كان مخطّطاً أن يكون تحت سقف الطائف و«بالنظام»، قبل أن يتحقق بـ«ثورة الأرز» في 14 مارس 2005 على وهج «زلزال» اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
هو الرئيس الذي صُعِق حين أبلغه أعزّ أصدقائه، الرئيس رفيق الحريري، تهديد الأسد له ولرئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط بالثأر جسدياً إذا أصرّا على رفض القبول بالتمديد للرئيس إميل لحود (2004)، صارخاً: «إذا أراد شيراك إخراجي من لبنان (وفق القرار 1559 الذي صدر عشية التمديد للحود) فإنني سأكسر لبنان، وإما أن تنفّذ ما أقوله لك وإلا فسنطالك انت وعائلتك أينما كنتم»، وذلك بعدما كان (الأسد) قال: «يجب اعتبار لحود ممثلي الشخصي في بيروت. ومعارضته تعني معارضتي».
ولم يكن مستغرباً أن ينهار شيراك عند تلقّيه خبر استشهاد الحريري، ويقول عن هذا اليوم الأسود: «كان خبر اغتياله واحداً من أسوأ الصدمات في حياتي شعرتُ بأنني فقدتُ أخاً، فأنا كنتُ أقلق عليه منذ عدة أشهر وعبثاً حاولتُ أن أحذّره من التهديدات التي تتربص به، وقد كان رفيق واعياً لها، وهذا الرجل الكبير لم يرضَ الرضوخ لها وكان يؤمن بالقضاء والقدَر. قلتُ له قبل أسبوعين من اغتياله عندما زار باريس، عليك توخي الحيطة. انهم مجرمون لا يتورعون عن شيء. وقبل ان يغادر مكتبي التفت رفيق اليّ وقام باشارة تعني (انهم لا يفعلون هذا!) وبعدها بيومين اتصلتُ بصديقنا المشترك باسيل يارد وطلبتُ منه أن يوصي رفيق بالحذر لان شعوراً سيئاً انتابني».
شيراك، الذي وصفه السفير الفرنسي السابق في بيروت برنار ايميه بأنه كان شخصاً محطّماً لحظة سماعه خبر اغتيال الحريري، حُفرتْ في عقل اللبنانيين وضميرهم صورتُه يوم وصل (برفقة زوجته) إلى بيروت التي كانت «تبكي» رفيق نهوضها ومستقبلها الذي فجّره أكثر من 2 طن من الـ«سي فور»، ووقف أمام ضريح «دولة الشهيد»، بعدما استُقبل بالهتاف، وانحنى تقديراً لنضال رجلٍ كبيرٍ وصديق عمر لطالما كان لبنان «ثالثهما» الحاضر على الدوام. أما غيابه عن التشييع فكان عزاه إلى أنه «كان لا بد من توجيه التحية لذكرى رفيق الحريري، والمشاركة في الحداد مع مواطنيه، ولكنني استبعدتُ فكرة المشاركة في التشييع، كي لا أجد نفسي إلى جانب الشخص الذي يتحمّل مسؤولية كبيرة في دورة العنف والكراهية: إميل لحود».
لم يكن دعم شيراك لبلاد الأرز «موسمياً»، بل كان فعْل إرادة راسخاً عززتّه العلاقة الشخصية بينه وبين الرئيس رفيق الحريري. ومن هنا كان إصراره على أن تستضيف بيروت القمة الفرانكوفونية العام 2002 تكريساً لرسالتها كعاصمة للتلاقي والتواصل و«الوصْل»، وصولاً إلى تشكيله «رأس حربة» في مساعدة لبنان على تَفادي وضْع «حافة الهاوية» المالي – الاقتصادي الذي يبدو على شفيره عليه اليوم، عبر مؤتمرات باريس 1 ـ 2 ـ حيث نجح في حشد الدعم الدولي لنهوض البلاد. ولم «يستسلم» الرئيس الراحل أمام «الأفخاخ» و«النكايات» في الداخل اللبناني «وما وراءه» والتي أحبطت إصلاحات «باريس 1 و 2»، فأعاد الكرّة في باريس 3 العام 2007، وهو المؤتمر الذي أطلق اسم الرئيس الشهيد رفيق الحريري عليه (لم تتُرجم أيضاً وعوده الإصلاحية).
وكانت الصداقة بين شيراك والحريري جسراً لتعاوُن متبادل، أفادت منه حتى باريس بتوسيع علاقاتها مع الدول العربية لا سيما السعودية وفلسطين وحتى سورية والعراق، ومن هنا كان الدعم الفرنسي واضحاً للقضايا العربية. والكل يذكر كم كان شيراك جريئاً وهو يواجه جنود الاحتلال الاسرائيلي لدى زيارته القدس الشرقية المحتلة العام 1996 ووقوفه بوجه الاحتلال الأميركي للعراق.
«الراي» سألت عضو «اللقاء الديموقراطي» النائب مروان حماده، ومستشار الرئيس سعد الحريري حالياً والرئيس الشهيد رفيق الحريري سابقاً الدكتور داوود الصايغ عن «جاك شيراك اللبناني» وعن العلاقات التي أرساها في صداقته التاريخية مع لبنان وعلاقاته الشخصية مع رجالاته وأهمها مع الرئيس الشهيد.
يؤكد حماده أن «هناك رئيسيْن تميّزا في تاريخ فرنسا بعلاقة فريدة مع لبنان، الأول شارل ديغول والثاني جاك شيراك الذي طوّر علاقته إلى ما هو أكثر من التناغم السياسي وصولاً إلى (حنان) حقيقي تجاه وطننا وأهله. فبالإضافة إلى سياسة فرنسا التقليدية كان شيراك يدخل من موقعه كرئيسٍ في كل تفصيل من حياتنا السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية».
ويوضح أن «شيراك كان دائماً متأهّباً للدفاع عن القضايا العربية وعن لبنان تحديداً، وقد تميّز في مواقف عديدة لم يكن أقلّها رعاية مؤتمرات باريس لدعم لبنان التي كان لها الفضل الأكبر في تغطية إعادة الإعمار في لبنان والحد من عجزه المالي. وكان أيضاً أوّل من وقف إلى جانبنا في كل الصراعات مع الخارج، أكانت مع إسرائيل أو تلك التي نشأت مع سورية نتيجة جنوح آل الأسد إلى هيمنة كاملة على مقدرات لبنان وحياة اللبنانيين».
ويذكر حماده ان شيراك «عمل على مساعدة ديبلوماسيتنا التي قادها رفيق الحريري من أجل تفاهم ابريل 1996 الذي حدّ من العدوان الإسرائيلي المتمادي على المدنيين، وهو الذي في المقابل عمل على إصدار القرار 1559 الذي نصّ على خروج القوات السورية والذي طُبِّق في ربيع 2005 بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وهو الذي على الصعيد العربي الأوسع حيّد فرنسا عن العدوان الأميركي على العراق، وسجّل بالتالي فرادة فرنسية بتعاطي الغرب مع القضايا العربية».
كما يشير الى علاقته بالرئيس رفيق الحريري، قائلاً: «جاك شيراك نذكره طبعاً كأخ وصديق قريب جداً لرفيق الحريري ولكن نذكره أيضاً كأخ وصديق للبنان وكمُناصِر للقضايا العربية».
من جهته، يلفت الصايغ أيضاً إلى انتماء شيراك للتيار الديغولي. ويقول: «تابَعَ شيراك الارث الذي تركه الجنرال شارل ديغول بالنسبة إلى لبنان. وكان من المعروف أن ديغول له نظرة خاصة إلى لبنان كونه عاش فيه مرتين، وكان يتابع شؤونه كثيراً».
ويضيف: «شيراك زاد على الإرث الديغولي عنصراً جديداً شخصياً شكّلتْه علاقته بالرئيس الشهيد رفيق الحريري، إذ بدأت هذه العلاقة عندما كان شيراك رئيس بلدية باريس العام 1994 وهو حينها دعا الرئيس الحريري وأقام له استقبالاً ضخماً. وفي السنة التالية أي في 1995، وصل شيراك الى رئاسة الجمهورية وكان الرئيس رفيق الحريري رئيساً لمجلس الوزراء اللبناني. وأذكر حينها أننا كنا في (قصر قريطم) عندما كانت تُعلن على شاشات التلفزيون الفرنسي وغيرها نتائج الانتخابات الفرنسية، وكان ذلك تماماً في الثامنة مساءً، إذ انسحب الرئيس الحريري الى الحديقة ونحن جلسْنا في الداخل قبالة شاشات التلفزيون، وكانت هناك طريقة في التلفزيون الفرنسي يظهرون فيها ملامح الرئيس الفائز، وظهرتْ صورة شيراك، وكان جو البيت في قريطم جو فرح، إذ نزل الحرس الى الحديقة بالتصفيق وهكذا عرف الرئيس رفيق الحريري بفوز شيراك. هو لم يجلس قبالة التلفزيون وانتظر النتيجة، كانت الفرحة كبيرة في حينها».
ويتابع الصايغ: «نشأتْ علاقة شخصية ومميزة بين الحريري وشيراك تحوّلت إلى صداقة عميقة وخاصة، اذ عندما يجلسان مع بعضهما البعض كانت تظهر علامات الثقة المتبادلة بينهما».
ويشير الى ان «شيراك زار لبنان مرتين، واحدة عندما كان رئيساً لبلدية باريس ومرة ثانية عندما أصبح رئيساً للجمهورية الفرنسية. في المرة الأولى، نزل ضيفاً على الرئيس الحريري في قصر قريطم مع عقيلته (برناديت)، وفي المرة الثانية نزل في قصر الصنوبر، وكذلك كان الرئيس الحريري يزور منزل الرئيس شيراك في فرنسا. هذه العلاقة الخاصة بين الرجلين سهّلت حل الكثير من المشكلات في لبنان وقرّبت المسافة بين بيروت وباريس، ولكنها في الوقت نفسه ساعدت فرنسا. فقد أصرّ الرئيس الحريري على إدخال فرنسا في تفاهم ابريل الذي ولد اثر العدوان الاسرائيلي على الجنوب المسمى «عناقيد الغضب» العام 1996. وأذكر حينها أننا كنا في السرايا نشاهد التلفزيون، وكان شيمون بيريز يجتمع في حينها مع وزير خارجية الولايات المتحدة وارن كريستوفر، وفي الوقت نفسه كان رئيس وزير خارجية فرنسا هيريفيه دو شاريت في لبنان يلتقي الحريري، وقلت للرئيس الشهيد حينها غداً تصدر في الصحف صورة بيريز مع كريستوفر وصورتك مع دوشاريت، وهذا يعني أن الفضل للرئيس الحريري في إدخال فرنسا في حلّ المشكلة عبر تفاهم أبريل. ثم كان للرئيس الشهيد دور في تقريب سورية آنذاك من فرنسا ومن الاتحاد الأوروبي».
ويقول الصايغ إن الرئيس الشهيد «كان المُحاور اللبناني والعربي بالنسبة للفرنسيين وكذلك كان المُحاور اللبناني والعربي والاسلامي بالنسبة للفاتيكان بشخص البابا يوحنا بولس الثاني، وكانت كل المشكلات اللبنانية تُحلّ باتصال شخصي بين الحريري وشيراك. وأكثر من مرة سمعتُ: (ألو بونجور جاك، كيف يمكن المساعدة في حل لهذه المشكلة؟). وقتها لم تكن ثورة الاتصالات على ما هي اليوم والتي دشّنها الحريري باكراً، إذ كانت الأمور تجري عبر العلاقات الديبلوماسية والسفراء. ولكن ما بين الرئيس الحريري وشيراك لم يكن هناك لزوم لاستدعاء سفراء، اذ كانت الاتصالات مباشرة».
ويذكّر أيضاً «بالمساعدات التي قدمت للبنان عبر هذه العلاقة الشخصية. في فترة إعادة الإعمار بعد الحرب تجهيز محطات الكهرباء، المساعدات الانسانية، وكان شيراك لا يسأل بل فقط يمدّ يد المساعدة، إذ كان يعرف جيداً أهمية العلاقة التاريخية بين لبنان وفرنسا، وزاد عليها الصداقة الشخصية مع الحريري. وهو كتب في مذكراته (زمن الرئاسة) هذا الامر وروى كيف تلقى خبر استشهاد الرئيس الحريري وكيف حضر الى بيروت للتعزية فوراً وشدد على ضرورة معاقبة الفاعلين».
ويشير الصايغ إلى أن «شيراك حمل الهمّ اللبناني والمعاناة التي عاشها لبنان والرئيس رفيق الحريري. وهو روى في مذكراته كيف أنه والرئيس جورج بوش تحدثا حول مساعدة لبنان اثناء زيارة بوش لباريس (2004)، وذلك عبر القرار 1559 حيث كلّف بوش وزيرة الخارجية كوندليزا رايس، وشيراك كلف مستشاره للشؤون الديبلوماسية، وحصل عمل مشترك في سبيل إصدار هذا القرار الدولي الذي كانت له تداعيات كثيرة في لبنان. فشيراك واكَبَنا على الصعيد السياسي والأمني اذ كان يؤمّن كل ما يمكن أن يطلب. حتى عندما وقعت طائرة (كوتونو) (2003) ساعدت فرنسا على نقل اللبنانيين من هناك لأنه لم يكن باستطاعة لبنان تأمين ذلك، وقد استنجدنا بالفرنسيين فلبّوا، وكان الرئيس شيراك لا يقول لا على شيء يحتاجه لبنان أبداً».
وعن انتقادات الخصوم السياسيين للصداقة بين شيراك والرئيس رفيق الحريري يقول: «لا يوجد شيء في السياسة لا يمكن انتقاده. ولكن ما أستطيع قوله إن هناك صداقة عميقة وحقيقية ربطت بين الرجلين، وقد استفاد منها لبنان واللبنانيون جميعاً. وعندما استشهد الرئيس الحريري جاء شيراك إلى منزل الرئيس الشهيد في باريس وأبلغ السيدة نازك الخبر، وليلتها وُلد القرار بإجراء تحقيق دولي وقيام محكمة دولية».
وإذ لا ينسى الصايغ أن يشير إلى أن «العلاقة الخاصة بين الحريري وشيراك عزّزت علاقة العرب بالاتحاد الأوروبي والشراكة معه، حتى أنها فتحت الطريق للرئيس السوري الأب لعلاقةٍ مع باريس»، يتوقف عند «مساهمة شيراك في إنجاح باريس 1 وباريس 2 ثم باريس 3»، ويقول: «باريس 2 كان من أهمّ الإنجازات إذ طلب شيراك من رؤساء الدول أن يقدّموا دعماً سخياً وكانت النتيجة كبيرة، وشكّلت إنجازاً للرئيس الحريري الذي كان مغتبطاً بالنتيجة. لكن سلطة الوصاية يومها أجهضت ذلك، لإنها لم تكن تنظر الى مصلحة لبنان، وكانت لا تريد ان يأتي الحل عن يد الحريري وشيراك».