كتبت غادة حلاوي في “نداء الوطن”:
ثمة تناقض بين الواقع المالي السائد في البلد وتصريحات جمعية المصارف وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة، التي لا تنفك تطمئن إلى وضع الدولار وتوافر السيولة لتأمين عمليات المواطنين اليومية. ويعتري المواطن العادي القلق يبرره سوء وضع البلد، واتساع دائرة الشائعات التي تنتشر كالنار في الهشيم. إنهالت اتصالات المودعين على أحد المصارف الذي طاولته شائعة إقفاله أو إفلاسه، قبلها خرج أحد المواطنين شاكياً باكياً من أحد المصارف وهو يحمل جنى عمره ولا يجد مصرفاً يستقبله، والسبب أنه كان مودعاً في بنك “جمّال ترست بنك” وتقاضى أمواله بعد التصفية الذاتية للمصرف والتي كان سببها العقوبات الاميركية الأخيرة.
في المداولات اليومية سجّل سعر صرف الدولار أعلى مستوياته أمس لدى الصيارفة حيث تراوح بين 1605 – 1615 ليرة وقد لجأ بعض المصارف إلى تقنين عملية تحويل العملة من الدولار إلى اللبناني بمبالغ محدودة لا تتجاوز الـ 500 دولار يومياً، أما المبالغ الكبيرة فشرط الحصول عليها تجميد المودع للمبلغ ستة اشهر. واعتباراً من الشهر المقبل يمكن القول إن لبنان انضم إلى قائمة الدول ذات أسعار الصرف الثنائية أو الثلاثية. أي سعر صرف رسمي والثاني للبنوك وهو معترف به من البنك المركزي، والثالث للصيارفة. والسؤال هنا: هل بات مصرف لبنان عاجزاً عن الدفاع عن السعر الرسمي للدولار ما يعد مؤشراً غير مطمئن؟
عوضاً عن ذلك فإن انخفاض سعر صرف الليرة، الذي بات معترفاً به ضمناً من مصرف لبنان، سيطلق موجة تضخم مخيفة، ستستفيد منها مالية الدولة بقدرٍ ما. ويشكك البعض في كون الأمر مدروساً ومخططاً له بموافقة السلطة. فتلك هي الطريقة الوحيدة لخفض الرواتب في القطاع الحكومي بطريقة غير مباشرة، أي عبر خفض القيمة الشرائية للرواتب.
هكذا تتراجع الدولة جزئياً عن خطيئة سلسلة الرتب والرواتب بلا ضجيج.
على أن الأخطر من كل ما تقدم هو إعلان مصرف لبنان اعتزامه تنظيم عمليات تمويل استيراد القمح والبنزين والدواء بالدولار ما يرى فيه اقتصاديون انتهاء للنظام النقدي القائم منذ العام 1992.
يقول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إن الدولار متوفر، وإن المشكلة هي بين الصيارفة والتجار. فاذا كان الأمر صحيحاً بالفعل فلماذا لا يتدخل مصرف لبنان لقطع الطريق على المضاربين بضخ ما يكفي من الدولارات في السوق، كما كانت الحال منذ 27 عاماً.
أمام هذا الواقع لم يعد بإمكان لبنان تلميع الحقائق المؤلمة اقتصادياً والتخفيف من وطأتها أمام المجتمع الدولي. بات الوضع اكثر من صعب وما على المسؤولين إلا اعتماد حلول جذرية أو الرحيل لأن الجوع كافر.
خلال زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري الى باريس كان لقاؤه “صادماً” مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون. واجه الاخير ضيفه بحقائق اقتصادية ووجّه بناء عليها مجموعة انتقادات حول عدم وجود معالجات حقيقية واصلاحات. وتنقل مصادر اطلعت على حيز من زيارة الحريري الى باريس ان الرئيس الفرنسي استند في ما قاله لرئيس حكومة لبنان الى تقارير ديبلوماسية وردته من بيروت، وتتحدث بالتفصيل عن أن الحكومة الحالية لم تقم بالجهود المطلوبة لوضع لبنان على سكة الثقة المطلوبة دولياً. وقد سمع الحريري شكاوى فرنسية نتيجة عدم وجود جدية في المعالجات الاقتصادية ووقف الهدر والفساد.
برأي الفرنسيين فإن لبنان لم يدخل بعد حيز تطبيقات “سيدر” وغيرها نتيجة تخلفه عن القيام بإصلاحات مطلوبة وضرورية من اجل التزام الدول بتعهداتها تجاه مساعدة لبنان.
أجواء مشحونة نقلها الحريري الى بيروت محاولاً البناء عليها في فتح صفحة جديدة من التعاطي الحكومي، ولكن لم يتوافر بعد ما يؤشر الى حسن النوايا بالمعالجة وقد انطلقت مناقشة موازنة العام 2020 من الحلقة نفسها التي سبق وشهدتها موازنة 2019 بحيث لم تحمل الاصلاحات المطلوبة رغم محاولة الوزراء الانجاز، ولو زمنياً، عبر انهاء المناقشة ضمن المهل الدستورية لتكون موازنة العام 2020 امام مجلس النواب قبل تشرين، وليتمكنوا بذلك من المضي باتجاه مسار يؤمن وضع لبنان على سكة الثقة الدولية المطلوبة.
لكن لبنان المأزوم بات مطوقاً دولياً، من جهة تحذيرات ماكرون وشروط “سيدر” ومن جهة ثانية شروط دايفيد شينكر واملاءات مساعد وزارة الخزانة الاميركية مارشال بيلنغسلي وعقوباته. بين هذين الحدثين ثمة متاهة لبنانية غير واضحة الأبعاد .
خلال لقاءاته امتعض بيلغينسي من ربط العقوبات بأزمة المصارف وشح السيولة، لتبدو العقوبات الاميركية، على حد تعبيره، وكأنها المسؤولة عن أزمة القطاع المصرفي وصرخة القطاعات. لم تفِ العقوبات بغرضها أميركياً إذاً، أو أن الامور تسير متجاوزة طموح الاميركيين الذين يريدون من العقوبات التضييق على “حزب الله” وبيئته وتجفيف منابعهم المالية، وفق تعبير مسؤوليه. فشدّد على وجوب الفصل بين العقوبات وأزمة لبنان المالية والمصرفية، طالباً من المعنيين تظهير أن العقوبات ليست مسؤولة عن الازمة بل إن “حزب الله” هو المسؤول الاول نتيجة إصراره على تقييد البلد بسياساته. ذهب المسؤول الاميركي بعد سلسلة إملاءات وبقي وضع لبنان الاقتصادي على قاب قوسين أو أدنى من الانفجار. فما هي المعالجات وهل أن لبنان يتجه بالفعل نحو اقتصاد موجه بدلاً من الاقتصاد الحر؟
وهل أن أول مؤشرات الازمة تمثل فعلاً في تعميم مصرف لبنان الذي صدر في كانون الثاني من العام الجاري، والمتعلق بالعمليات المالية والمصرفية بالوسائل الالكترونية والتي فرض عليها ان تسدد قيمة التحويل النقدية بالليرة اللبنانية حصراً؟.