Site icon IMLebanon

القرنة السوداء: مشروع فتنة جديد طبخته أيادي الممانعة (1-2)

 

تحوّلت القرنة السوداء إلى زاوية صراعٍ مفتوح على خطوط مواجهةٍ باتت أبعد من حدودٍ مختلَفٍ عليها بين قضاءين، وأخطر من نزاعٍ على بركة ماءٍ يتنازعها أهالي البلدتين، وباتت مدخلاً لزارعي الألغام ومشعلي النيران ومثيري الفتن بين اللبنانيين.

صورةٌ لصليب تنشرها بلدية بشري تقابلها تظاهرة سيارة لشباب من الضنية، يتخلّلها إطلاق نار «مجهول» عليها، تليه دعوة لإقامة صلاة الجمعة في القرنة، ليظهر «صاحب المياه المقدسة» ويسكب على نار التصعيد المزيد من وقود التسعير الطائفي مع تقاذف المندفعين، من كلا الجانبين، الإدعاءات والإتهامات والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور..

الخريطة السياسية

تسيطر القوات اللبنانية شعبياً وسياسياً، وتحتكر التمثيل النيابي والبلدي، لمدينة بشري، إلا أن في هذه المنطقة خصوماً للقوات أبرزهم النائب السابق جبران طوق الذي إستقبل الوزير جبران باسيل خلال جولته الإستعراضية في المنطقة، وهو يسعى إلى إستعادة دوره الذي فقده مع غياب الهيمنة السورية.

في الضنية، يتقاسم تيار المستقبل ممثلاً بالنائب سامي فتفت السيطرة النيابية مع النائب جهاد الصمد، عضو اللقاء التشاوري والحليف الثابت لـ«حزب الله»، مع وجود بلديات متنوعة الولاء السياسي.

يبقى أن في المشهد الضناوي أيضاً حضور النائب فيصل كرامي الذي يعتبر من أهالي بقاعصفرين، فدارة والده المرحوم الرئيس عمر كرامي لها مكانتها لدى أبناء المنطقة، والجماعة الإسلامية تحضر في تفاصيل النسيج الضناوي، بينما تنمو قوة المجتمع المدني لتبرز على شكل إتحاد للجمعيات، بينما تتقدم أدوار بعضها في الإنماء والسياسة، وأبرزها جمعية التراحم والتنمية، المنخرطة في إطار «التحالف المدني الإسلامي».

الإتفاق على المياه: أصل الحكاية

في العام 2010، وبقرارٍ من رئيس الحكومة سعد الحريري، تشكلت لجنة برئاسة محافظ الشمال السابق ناصيف قالوش، مؤلفة من ممثلين عن: مجلس الإنماء والإعمار، المشروع الأخضر، المديرية العامة للشؤون العقارية، ووزارة الطاقة.

رفعت هذه اللجنة تقريرها في شهر تشرين الثاني 2010 إلى رئاسة الحكومة، وجاء في خلاصته الآتي:

«بما أنه هناك خلاف بين بلدتي بشري وبقاعصفرين، فإن الحل يكون في وجود بركتين:

ترميم بركة العطارة.

وإنشاء بركة في وادي الدب.

وإذا أراد أهل بشري إنشاء بركة تكون في وادي المزاريب.

والملاحظ في هذا التقرير أن النقاط الثلاث ليست ضمن المناطق المختلف عليها عقارياً.

حظي التقرير الصادر عن اللجنة المنبثقة من رئاسة الحكومة بموافقة بلديتي بشري وبقاعصفرين، وتمكن حزبا المستقبل والقوات اللبنانية من تأمين تمويل لبركة العطارة بواسطة الهيئة العليا للإغاثة، وكان آخر دفعة للتمويل مبلغ 400 ألف دولار من إجمالي مبلغ مليون ونصف المليون دولار.

الإنتقال المفاجئ: الفتنة الكامنة

لكن، مع التمويل الجديد، تم نقل البركة، إلى بركة سمارة، وتم إطلاق العمل برعاية وزير الزراعة، وبمشاركة النائب فيصل كرامي، بدون أي دراسة للأثر البيئي، وهي خطوة شكلت خطراً على النسيج الطبيعي الحساس في هذه المنطقة.

ومع هذا الإنتقال من بركة العطارة إلى بركة سمارة، إنطلقت موجةٌ من الإعتراض من أهالي وبلدة بشري، لأسباب مختلفة، منها أنها لم تكن واردة في تقرير اللجنة الحكومية، وأن العمل في الموقع الجديد يحمل أضراراً خطرة على مجمل التركيبة البيئية في المنطقة، خاصة أن بركة سمارة تغذي زغرتا والضنية بالمياه، وليس بشري.

من غيَّر المشروع وأحدث الفتنة؟

السؤال الجوهري هنا:

من هو الشخص أو الجهة التي تقف وراء مخالفة تقرير الحكومة وخرق موافقة بلديتي بقاعصفرين وبشري عليه ؟

من الذي إتخذ قرار نقل العمل إلى بركة سمارة بدون دراسة الأثر البيئي وكيف توافق وزارة الزراعة على مشروعٍ بهذه الحساسية بدون إدراكٍ لأبعاده، في ظل الخلاف المعروف حول تحديد الواقع العقاري بين قضاءي بشري والضنية؟

لماذا تم إختيار نقطة العمل في منطقة متنازع عليها، ولم يتم إعتماد نقطة في الأراضي المحسوم ملكيتها وهي الأكبر مساحة والأكثر ملاءمة لتنفيذ مشروع البركة؟

لماذا البدء بتنفيذ بركة جديدة تحتاج إلى التمويل، بدل إستكمال بركة العطارة بالتمويل الموجود والإفادة منها في أقرب الآجال، بدل الدخول في مشروعٍ جديد يحتاج التمويل والوقت الإضافيين؟؟

السؤال الأخطر: كيف تخرق وزارة الزراعة قرار وزارة البيئة القاضي بتصنيف جبل المكمل – القرنة السوداء موقعاً طبيعياً، والصادر عن الوزير أكرم شهيب بتاريخ 17/11/1998، وتعطي الأمر بالعمل بشكلٍ مخالف لقرار وزير إتخذ قراره بدون أي خلفيات مناطقية.

الرأي البيئي المختص

يقول الهيدروجيولوجي الدكتور سمير زعاطيطي (المسلم من أهل السنَّة!!) عن الخطر البيئي بإنشاء بركة لبلدة بقاعصفرين في منطقة مرتفعة قرب مناطق ذوبان الثلوج: «الخطر يكمن في تدخل الإنسان في عمل الطبيعة وعرقلته وتخريبه. العلم يقول إن الماء إما يكون سطحياً أو جوفياً. وسحبُ مياه الثلوج التي تغذي الصخور بالمخزون الجوفي هو تدخلٌ غير مدروس له مفاعيلُ وآثارٌ بيئية مضرة، فالطبيعة تخزن عبر التسريب السطحي هنا في القرنة ومحيطها الفائض من المياه  السطحية في عمق الصخور لتظهر المياهُ بعدها في المناطق الأقل إرتفاعاً في الينابيع والأنهار وفي الآبار.. وعباقرةُ وزارة البيئة والمشروع أخضر يريدون تخزيناً سطحياً في بركةٍ موحلة وملوثة بعكس السير وخلاف الطبيعة».

ويتساءل الدكتور زعاطيطي: لماذا هذا العبث ومحاولة إبتداع مشاريع من هذا النوع؟ لتكون الإجابة بأن «البرك والسدود مكلفة وتسمح بالتلاعب وبتسلُّل الفساد، بعكس حفر الآبار المدروسة بفعالية وبأكلافٍ بسيطة كما هو حال عملنا لفترة ٣٠ سنة في الجنوب اللبناني المكتفي بدون برك أو سدود ويعاني أهله من تلويث مياه  سد نهر الليطاني لمصادر المياه الجوفية.. فكلفة الآبار قليلة نسبة للسدود والبرك وبالتالي الأرباح قليلة لذا لا يريدون السماع بهكذا مشاريع ويوقفون الرخص الجديدة لحفر الآبار ويضعون ضرائب عالية على كل بئر منتجة.»

وينتقد الدكتور زعاطيطي السياسة المائية «القائمة  على السدود خرقاء لا أساس علمي لها تؤمـّن لهم أرباحاً طائلة وتـُلحق خسائر كبيرة بالخزينة وبالمواطنين المحرومين من خيرات البلد المائية.»

ويوضح الدكتور زعاطيطي: «المطلوب مصادرُ مياهٍ جديدة لبقاعصفرين وهذا حقها. ولكن تأمين هذه المصادر هو أمر علمي يترك للخبراء. المياه الجوفية متوفرة بغزارة تحت البلدة لماذا لا يُصار الى دراسة هيدروجيولوجية يتم بناءً عليها تعيينُ عدة مواقع لحفر آبار إستثمارية  غير مكلفة، بدل تجميع مياهٍ سطحية يطالها التبخر وإحتمالات التلوث».

ويضيف: « أتكلم عن تجربة في قرى جبل عامل المرتفعة عن سطح البحر.. عن مياهٍ جوفية على عمق ٣٠٠ متر  في بئرٍ منتج على طريق أرز بشري حفره أصدقاء لنا في الماضي.»، مؤكداً أن «الجنوب اللبناني كله يستفيد من المخزن المائي الجوفي للعصر الطبشوري  المتجدد سنويا بالأمطار والثلوج.. فلماذا لا ننقل التجربة الى الشمال الموجود فيه عدة مخازن جوفية من جوراسيك الى طبشوري؟

ويؤكد الدكتور زعاطيطي أن «حل نقص المياه مسألة بيئية علمية وليست مسألة عقارية أو نفوذاً سياسياً أو طائفياً أو مذهبياً، بل هو تأمينُ مادةٍ حياتية للإنسان اللبناني» وهو الذي عمل «على تأمين مصادر مياه ٍجوفية جديدة ومتجددة  لأكثر من ٣٠ سنة ماضية في الجنوب اللبناني لصالح: مجلس الجنوب، البلديات،  قوات الطوارئء، بالإضافة إلى الآبار الخاصة (أكثر من ٢٠٠ بئر موزعة على أرجاء الجنوب اللبناني)».