لم يكن ينقص لبنان واللبنانيين غير مواقع التواصل الاجتماعي ليصبح نشر أي جوّ يحتاج فقط إلى تسريبة من هنا أو خبر ملفق من هناك، فينتشر كالنار بين الهشيم، من دون أي تدقيق، ويصبح كل لبناني خبيراً سياسياً وأمنياً واستراتيجياً واقتصادياً وبيئياً ليدلي بدلوه ويطلق أحكامه.
بعد موجة الإشاعات التي اغرقت البلد والأسواق الأسبوع الماضي، وبعد نوبات الجشع التي انتابت الصيارفة وأصحاب محطات البنزين وغيرهم، بدأ الهدوء يعود إلى الأسواق ليتبيّن، ليس أن لا أزمة في لبنان ولا أن ثمة أزمة مفتعلة، إنما أن اللبنانيين هم ضحية أزمة غياب الثقة بالدولة ومؤسساتها والمسؤولين بشكل عام، ما يجعلهم يصدّقون أي خبر أو إشاعة! وهذا الواقع هو ما دفع إلى الدعوة الى التظاهرات التي شهدها لبنان الأحد، والتي تتقن بعض الجهات استغلال وجع الناس وقرفهم لتوجيه رسائل سياسية- أمنية مفادها إمكان استغلال تحركات الشارع في أي لحظة لتحقيق أهداف غير بريئة وغير مرتبطة بمطالب الناس.
الثابت أن الوضع المالي في لبنان لا يزال ممسوكاً، تماماً كما هو ثابت أننا نعيش أزمة خطرة ستتحول حكماً إلى كارثة إذا لم يتدارك المسؤولون الوضع قبل فوات الأوان، هذا الأوان الذي قد يكون حدّه الأقصى نهاية السنة الحالية وإقرار موازنة الـ2020 مع سلّة شاملة من الإصلاحات الفعلية التي تنقذ، لا الضرائب التي تقضي على الاقتصاد.
الوضع المالي اليوم ممسوك وليس متماسكاً لأن الوضع الاقتصادي بلغ أسوأ درك ممكن بفعل تراكم العوامل السلبية، بدءًا من الفساد المستشري في مؤسسات الدولة وبين المسؤولين، مروراً بسوء الإدارة الذي تخطى الخيال وبسياسات مالية قامت على قاعدة تحقيق أرباح سهلة عبر الفوائد عوض التركيز على القطاعات المنتجة التي تحوّل لبنان بلداً منتجاً لا مستورداً وتخلق فرص عمل، وصولاً إلى إقرار سلسلة الرتب والرواتب لأهداف شعبوية عشية الانتخابات النيابية، وليس انتهاء برفض المسؤولين القيام بالإصلاحات البنيوية في كل القطاعات من الإصلاح الإداري إلى الكهرباء والاتصالات وغيرها!
في ظل هذه المعادلات اختلط “حابل” الدولار بـ”نابل” البنزين وبات اللبناني أسير غياب الشفافية من جهة وإصراره على البقاء ضمن منظومة سياسية- اقتصادية- اجتماعية تسبب نزفاً مخيفاً للخزينة والاقتصاد ولكل مقومات الصمود.
وعلى عكس كل الاتهامات الجائرة، الواضح أن المجتمع الدولي لا يريد للبنان أن يسقط، وإلا لما كانت الولايات المتحدة تصرّ على مساعدة الجيش اللبناني وعلى بناء سفارة لها في لبنان هي الأكبر في الشرق الأوسط ولما كانت تستمر في دعم المشاريع التنموية عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، ولما كانت أوروبا بقيادة فرنسا تعقد مؤتمر “سيدر” وتشجّع الدول والمؤسسات المانحة على تخصيص أموال للاستثمار في لبنان. لكن ربما ثمة من يهدد بإسقاط لبنان في حال سقطت إيران اقتصاديا ومالياً وفي حال اهتزّ حزبها في لبنان تحت وطأة العقوبات!
لعل المشكلة الأساس تكمن في معضلتين: الأولى أن ثمة في لبنان من يصرّ على إلحاق وطن الأرز بمحور إيران و”حزب الله” الغارق في العقوبات عوض النأي بأنفسنا عن لهيب المواجهة الإقليمية- الدولية. والثانية أن أكثرية المسؤولين في لبنان لا يزالون يرفضون حتى اليوم كل النصائح الدولية بضرورة البدء بإصلاحات تنقذ لبنان نفسه كي يتمكنوا من مدّ يد العون!
المطلوب اليوم قبل كل شيء أن نتوقف في لبنان عن الاستجداء والتسوّل لدى العواصم العالمية، وأن نبدأ بوقف النزيف الداخلي عبر الحد من الفساد والزبائنية لأننا والعالم مقتنعون أن لا أحد يستطيع أن يساعدنا ما لم نبدأ بمساعدة أنفسنا.
لبنان لم يسقط بعد، لكنه قد يسقط في أي لحظة، وفي وقت ليس ببعيد أبداً، إن لم نُحسن التقاط الفرصة الأخيرة المتاحة لنا اليوم عبر مؤتمر “سيدر”، فنؤكد أن لبنان يصرّ على أن يبقى في قلب الحضن العربي والدولي وننصرف اليوم إلى ورشة الإصلاحات الداخلية الحقيقية، فنتخذ سلسلة إجراءات جذرية في مواجهة الهدر والتسيّب والفساد وتضخّم الإدارة والمحاسيب والزبائنية…قبل فوات الأوان!