كتبت صحيفة “الأخبار”:
في الأشهر الثلاثة الأخيرة، باع مصرف لبنان للمصارف التجارية نحو 2.9 مليار دولار، ولم يشترِ منها سوى 187 مليون دولار، أي إن صافي مبيعات مصرف لبنان ومشترياته من القطع الأجنبي كان سلبياً بقيمة 2.7 مليار دولار في هذه الفترة، وهذا مؤشّر على استنزاف موجودات الدولار لدى البنك المركزي، ولكنّه مؤشّر أيضاً على أنه لا يزال يمدّ المصارف بسيولة الدولار المطلوبة، أو بقسم منها. السؤال المطروح الآن: إلى أي مدى يستطيع مصرف لبنان أن يواصل تدخّله بائعاً للدولار في ظلّ استمرار تنامي الطلب عليه وتراجع العرض باطراد، أو ما سمّي في الإعلام «شحّ الدولار»؟
يحافظ البنك المركزي على سعر صرف ثابت عبر تدخّله المباشر والدائم في سوق القطع الأجنبي. طبعاً، توجد أدوات أخرى مهمّة، تقليدية (كتحديد سعر الفائدة) وغير تقليدية (الهندسات المالية مثلاً)، إلّا أن ربط أي عملة محلّية بعملة أجنبية أخرى وتثبيت سعر صرفها الاسمي، يفرضان على البنك المركزي أن يكون مستعداً دائماً كي يسدّ أي نقص في عرض العملة الأجنبية مهما بلغ الطلب عليها، وإلّا فسيفشل في تثبيت سعر العملة المحلّية. وهذا ما يميّز نظام سعر الصرف الثابت عن غيره من أنظمة الصرف المُعتمدة في بلدان العالم.
ثُبِّت سعر صرف الليرة اللبنانية الاسمي إزاء الدولار بحكم الأمر الواقع، لا بحكم القانون، بعد موجات مضاربة مُتتالية بدأت في النصف الأوّل من ثمانينيات القرن الماضي، وصولاً إلى موجة المضاربات الأخيرة في عام 1992. بعد ذلك جرت تقوية سعر صرف الليرة على مدى 6 سنوات، واعتباراً من أواخر عام 1998، حُدد السعر الرسمي بـ1507.5 ليرة وسطياً (1501 ليرة لشراء الدولار و1514 ليرة لبيعه)، وبقي مثبتاً على هذا السعر على مدى 21 عاماً.
في الأسابيع الأخيرة، ظهرت مؤشّرات كثيرة تُنبئ بتعديل يطرأ على نظام سعر الصرف، بحكم الأمر الواقع أيضاً. قد لا ينطوي ذلك على استبدال كامل لنظام السعر الثابت بنظام السعر العائم، وهذا ما يردّده المسؤولون في الحكومة ومصرف لبنان، إلّا أنه قد يسمح بوجود سعرين أو أكثر لليرة مقابل الدولار.
يحدث «نقص الدولار» (Dollar Shortage)، وهو الحالة القائمة في لبنان حالياً، نتيجة عوامل خارجية وداخلية عدّة، بنيوية وظرفية، تؤدّي إلى عدم كفاية كمّية الدولارات الداخلة إلى الاقتصاد المحلّي لتسديد كل المدفوعات للخارج، ولا سيّما استيراد السلع والخدمات وفوائد الدَّين والودائع لغير المقيمين. في هذا السياق، يسجّل ميزان المدفوعات عجوزات سنوية متراكمة منذ عام 2011، بلغ مجموعها أكثر من 15.3 مليار دولار حتى تموز/ يوليو الماضي، وفق حسابات مصرف لبنان، أي إن كمية الدولارات التي خرجت من لبنان في هذه الفترة كانت أعلى بهذه القيمة من كمية الدولارات التي دخلت إليه. ويعود ذلك إلى اختلالات واسعة جعلت مصرف لبنان بائعاً صافياً للدولار، لتعويض هذا النقص، ما استنزف احتياطاته الصافية بالعملات الأجنبية، وارتفع العجز فيها من نحو 4.7 مليارات دولار في نهاية عام 2015 إلى أكثر من 32 مليار دولار حالياً، أي إن مصرف لبنان بات مديناً بهذه القيمة نتيجة عمليّاته لتمويل عجز ميزان المدفوعات وسدّ نقص الدولار.
لا ينشر مصرف لبنان إحصاءات كافية عن عمليّاته، إلّا أن «الأخبار» تمكّنت من الاطلاع على بيانات بيع القطع الأجنبي وشرائه اليومية، تغطّي الفترة من 1/7/2019 إلى 27/9/2019، وتبيّن أن مبيعات مصرف لبنان للدولار إلى المصارف بلغت نحو مليارين و917 مليون دولار، في 59 يوم عمل فعلي (من دون أيام العطل) في الأشهر الثلاثة الأخيرة، أي بمعدّل وسطي يومي بلغ نحو 49 مليوناً و105 آلاف و833 دولاراً. في المقابل، لم تتجاوز مشتريات مصرف لبنان للدولار من المصارف في الفترة نفسها نحو 187 مليوناً و500 ألف دولار، أي بمعدّل وسطي يومي نحو 3 ملايين و125 ألف دولار.
اللافت أن جميع عمليّات البيع والشراء جرت على أساس سعر موحّد ثابت، هو 1514 ليرة للدولار. وقد ارتفعت مبيعات مصرف لبنان للمصارف شهراً بعد شهر، فيما تراجعت مشترياته منها بالوتيرة نفسها، ما وسّع الهامش السلبي، وهنا بيت القصيد في البحث عما سُمِّي «شحّ الدولار». فوفق الإحصاءات المذكورة، ارتفعت مبيعات مصرف لبنان للدولار إلى المصارف من نحو 800 مليون و350 ألف دولار في تموز/ يوليو 2019 إلى نحو 922 مليوناً و50 ألف دولار في آب/ أغسطس، وواصلت ارتفاعها لتبلغ نحو مليار و223 مليوناً و950 ألف دولار في أيلول/ سبتمبر الجاري (حتى 27 منه). أي إن مبيعات مصرف لبنان للدولار إلى المصارف ارتفعت بنسبة تفوق 50% في الأشهر الثلاثة الأخيرة. في المقابل، تراجعت مشتريات مصرف لبنان من المصارف من 82 مليوناً و325 ألف دولار في تموز/ يوليو، إلى 71 مليوناً و75 ألف دولار في آب/ أغسطس، وإلى 34 مليوناً و100 ألف دولار في أيلول/ سبتمبر. تعكس هذه الإحصاءات الاختلالات في سوق القطع، إذ إن المعدّل اليومي لتدخّل مصرف لبنان بائعاً للدولار ارتفع 34 مليوناً و797 ألف دولار في تموز/ يوليو إلى 67 مليوناً و997 ألف دولار في أيلول/ سبتمبر، في حين أن مشترياته من الدولار تراجعت من 3 ملايين و579 ألف دولار كمعدّل يومي في تموز/ يوليو إلى مليون و894 ألف دولار في أيلول/ سبتمبر. وتبيّن الإحصاءات في هذا الشهر أن هناك 8 أيام عمل من أصل 18 يوماً لم يشترِ فيها مصرف لبنان أي دولار من المصارف، في حين أنه باعها الدولار يومياً بقيمة تراوح ما بين 23 مليوناً و850 ألف دولار كحد أدنى (في 20/9/2019)، و134 مليوناً و700 ألف دولار كحد أقصى (في 18/9/2019).
إذا استمر تنامي الطلب على الدولار في سوق القطع، فمن المستبعد أن يكون مصرف لبنان قادراً على مواصلة التدخّل، ولا سيّما مع تسجيل ميزان المدفوعات عجزاً بقيمة 5.3 مليارات دولار في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، وهو أعلى عجز في تاريخه. لذلك، بدأت ملامح تعديل نظام سعر الصرف تظهر، وأولى ترجماتها ستبدأ في التعميم الذي أعلن سلامة أنه سيصدره غداً الثلاثاء لتأمين استيراد القمح والدواء والمحروقات.