كتبت غادة حلاوي في “نداء الوطن”:
قد لا تُسقط تظاهرات الأمس في الشمال وبقية الأراضي اللبنانية الحكومة، قد لا تغيّر في المشهد السياسي القائم أصلاً على المحاصصة وتقسيم المغانم، ولكنها ربما شفت غضب الناس ممن وجدوا في الشارع ضالتهم للتعبير عما تكتنزه القلوب من قهر وعوز وضيق اقتصادي يصعب على السياسيين تحسس معانيه.
للمرة الأولى يعمل المتظاهرون على إنزال صورة سعد الحريري في طرابلس، وفي الساحة نفسها التي حاول فيها المتظاهرون في كانون الثاني 2011 إسقاط تكليف الرئيس نجيب ميقاتي فحكومته. لم تقتصر الهتافات المناهضة على الحريري، نال ميقاتي نصيبه أيضاً.
يمكن للمشهد السياسي الذي شهدته طرابلس أمس أن تكون له قراءة مختلفة للحرمان المزمن الذي تعانيه المدينة، لم تنصفها حكومات الحريري ولا التفتت إليها حكومة ميقاتي بالمقارنة مع مكانته المالية والشخصية كابن المدينة والأدرى بشعابها. في تعليقه على المشهد قال ميقاتي: “إن ما جرى ويجري في المناطق اللبنانية ومنها طرابلس هو تماماً ما كنا نحذر منه ونتوقعه نتيجة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الخانقة، وأنا كنت ولا أزال إلى جانب أهلي في طرابلس والشمال وكل لبنان، للمطالبة بحقوقهم والوقوف إلى جانبهم، ومستعد أن أتحمل أمامهم مسؤوليتي كاملة، غير أنّ الأزمة الحالية مسؤول عنها كل الطبقة السياسية الحاكمة وتتحمل الحكومة مجتمعة مسؤولية معالجتها”. وتابع: “إلى الآن كان واضحاً أن هناك عدم اكتراث بما جرى في الأسابيع الماضية على المستويين المالي والاقتصادي، فعسى أن يشكل ما حصل اليوم جرس إنذار أخير للحكومة لتنطلق في معالجة ما هو مطلوب”.
مدينة مهملة
لا شي يختلف في التحركات التي شهدتها عاصمة الشمال عن بقية الأراضي اللبنانية سوى أن طرابلس المدينة التي كانت مدينة محورية لجهة الحركة الاقتصادية القوية والتي كانت متمثلة بوجود مرافق مهمة كمصفاة النفط التي جمعت حولها مجتمعاً مدنياً وثقافياً مختلفاً من خلال إصدار مجلة “أهل النفط” لرئيس تحريرها عبد الله المشنوق، أضحت “يتيمة”.
كان في طرابلس محطة تسفير وقطار سريع وكانت سوقاً لكل الشمال ومقراً لكل الزعماء ومركزاً للتبادل التجاري مع سوريا. كل ما تقدم صار من الماضي يتحسر عليه أهلها وقد باتت مدينة مهملة بكل مرافقها. وعدا كل ما تقدم لم تتمكن الحكومة ولغاية اليوم من اختيار شخصية مناسبة لتنشيط منطقة طرابلس الاقتصادية. دفعت مدينة الشمال ثمناً للحروب العبثية التي كانت “ممولة من السياسيين” يقول الوزير السابق رشيد درباس مقارناً وضع المدينة بين أمسها واليوم. درباس قصد وزيرة الداخلية ريا الحسن أخيراً ودعاها لزيارة طرابلس ورصد أوضاعها عن قرب.
يقول درباس “فقدت الناس ثقتها بكل من باعها، وتذكرها في موسم الانتخابات وبعد النتائج صار يتذرع بقصر اليد”، منتقداً “المحاصصة وتخلي الكل عن مسؤوليته”. لكن ما يتخوف منه في المقابل هو “حرق الصور وأعمال الشغب التي ترتكبها مجموعات تتحرك ثم تعود على أعقابها خائبة”.
الناس مصابة بالاحباط ولديها لوم على قياداتها. بعد خروج السوريين واغتيال الحريري، يقول درباس “كانت هناك جدية سياسية ومرجعية سياسية وخطاب سياسي، بينما اليوم فاتحين دكاكين والعقلية حانوتية قائمة على المحاصصة”.
لا شك أنّ الشارع السني عموماً مخنوق ويشكو في معظم مشاربه من عدم تلبية الحكومة احتياجاته الخدماتية، وبعضه يعبّر صراحة عن امتعاضه مما يراه تهاوناً من رئيس الحكومة تجاه الحفاظ على صلاحيات الموقع الدستوري السنّي في المعادلة الحاكمة.
بالأمس عبّرت ساحة الشمال عن جزء من أزمة السنّة في كل لبنان وعن جزء من أزمة الحريري في السلطة، وليس أدل على تعطش الشماليين المزمن للخدمات والإنماء والتقديمات أكثر من الاستقبال الحاشد الذي قوبلت به زيارة وزير الدولة لشؤون التجارة الخارجية حسن مراد لعكار وطرابلس وفي جعبته منح جامعية.
وفي المقلب الآخر يمكن الحديث عن تضعضع شارع “المستقبل” والاحتقان السائد وسط جماهيره بينما الصراع لا يزال على أشده بين قوى “المستقبل” على خلفية ما أفرزته الانتخابات النيابية وأحقية تمثيل هذه المنطقة أو تلك في الحكومة والمجلس النيابي.
حين يُسقط الناس في الشارع صور الحريري للمرة الأولى منذ استشهاد والده العام 2005 فهذه وحدها دلالة لا تطمئن. قد لا يعني الأمر أن ما حصل يعبّر عن الشمال وأهله عموماً، لكنه تفصيل لا يمكن القفز فوقه، بل يمكن البناء عليه انطلاقاً من اعتباره “هزّ عصا” للآتي من الأيام.