على مدى الأشهر الماضية كان بعض المنظرين الاقتصاديين يتهمون حاكم مصرف لبنان بأنه يتسبب بأزمة مالية بسبب إصراره على حماية سعر صرف الليرة ما يكبّد الخزينة خسائر طائلة، وكانوا يطالبون بضرورة تحرير سعر الصرف لإراحة الخزينة ووقف ما يسمونه أرباح المصارف نتيجة الفوائد المرتفعة والاستفادة من الاكتتاب في سندات الخزينة.
قرر رياض سلامة، ليس وقف دعم الليرة، بل الاكتفاء بسلسلة إجراءات طلبها من المصارف لتخفيف الضغط عن العملة الوطنية عبر الحد من تدفق الدولار إلى الأسواق للتصدي لأصحاب الغايات المشبوهة ومنعهم من تحقيق أهدافهم. “قامت القيامة” وبات رياض سلامة مسؤولاً عن قيام الصيارفة بمضاربات لأنه أحجم عن إغراق السوق بالدولارات المدعومة!
أسبوعان من الإجراءات المحدودة لتخفيف الضغط عن الليرة برهنت بما لا يقبل أي شك بأنه بمجرّد أن ظن البعض أن ثمة توجهاً للتخلّي عن سياسة حماية العملة الوطنية، غرقنا في فوضى مخيفة نتيجة ارتفاع هائل في الأسعار واحتمال انقطاع مواد أولية أساسية، وعاش اللبنانيون قلقاً عميقاً على مدخراتهم القليلة في المصارف، ما يوصلنا إلى الخلاصة الآتية: أكبر كارثة يمكن أن تصيب اللبنانيين، لا سمح الله، هي في حال قرّر مصرف لبنان الامتناع عن التدخّل في السوق المالية ووقف دعم الليرة!
ولكن في مقابل الحرص على الليرة وطمأنة اللبنانيين على مستقبلهم لهذه الناحية، كان حاكم مصرف لبنان يصرّ على تنبيه المسؤولين بأن ثمة استحالة للاستمرار في الحفاظ على الاستقرار المالي والاجتماعي ما لم يتحملوا مسؤولياتهم بفعل ما يلزم لتحقيق أي إنجاز ولو بسيط، مثل مجرّد ضبط ولو محدود للفساد في قطاعات كالجمارك والكهرباء والاتصالات وغيرها وفي ضبط المعابر الشرعية وغير الشرعية وفي تحريك الاقتصاد لرفع نسبة النمو كي نتفادى الكارثة!
ليس رياض سلامة مسؤولاً عن فساد السلطة السياسية، وليست المصارف اللبنانية مسؤولة عمّا آلت إليه الأوضاع الاقتصادية. يوم وصلت نسبة النمو إلى حدود الـ10 في المئة في العام 2010 كانت المصارف، وبتشجيع مصرف لبنان ودعم منه، تقدم القروض على اختلافها، الإسكانية منها وعبر “إيدال” للمشاريع الإنتاجية وغيرها. لكن السياسات المالية والاقتصادية الغبية للحكومات المتعاقبة أوصلتنا إلى نسبة نمو بعلامة صفر مربع. كما أن فساد السلطة السياسية وإصرار المسؤولين على ممارسة المحاصصة وتوزيع “مغانم السلطة” بين الزعماء والمحاسيب والأزلام أوصلنا إلى ما وصلنا إليه من أزمات وجودية!
لولا وجود رياض سلامة على رأس حاكمية مصرف لبنان لكانت الأزمة المالية والاقتصادية ضربت لبنان منذ العام 2008 يوم غرق معظم الدول من الشرق والغرب نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية التي بقي لبنان بمنأى عنها بفضل إجراءات رياض سلامة الاحترازية والتي جعلته بين أفضل حكام المصارف المركزية في العالم. كل ما فعله حاكم مصرف لبنان أنه لا يزال حتى اليوم يقوم بعمليات الإنقاذ ويمارس “القتال التأخيري” مالياً علّ وعسى أن يستفيق ضمير المسؤولين!
هكذا يحاول رياض سلامة أن يبقي الوضع المالي في لبنان في غرفة العناية الفائقة، عبر سلّة الإجراءات التنظيمية والذكية التي اتخذها لتنظيم الأسواق المالية وعمليات الاستيراد وحصر استخدام الدولار قدر الإمكان حفاظاً على احتياطي المصرف المركزي بالعملات الأجنبية، وهو يرفض الاستسلام علّ الذين في الحكم على مختلف المستويات يقومون بالحد الأدنى المطلوب منهم: وضع الإصلاحات التي اشترطتها الدول المانحة في “سيدر” موضع التنفيذ في موازنة الـ2020، فتتوقف المراوغة والرهانات على أن المجتمع الدولي سيساعدنا ولو لم نساعد انفسنا، ولو استمرينا في الفساد والهدر والصفقات.
عملية الإنقاذ صعبة لكنها ليست مستحيلة، وشرطها الأول وجود رجال دولة يعلون المصلحة الوطنية على كل المصالح الخاصة… فهل هذا المطلب مبالغ به؟
مرة جديدة، ورغم كل الحملات سواء المشبوهة والمنظمة أو الغوغائية، ورغم الاستهداف المباشر، يثبت رياض سلامة أنه على حق في كل ما يفعله في مواجهة التحديات وصعوبة الأوضاع وخطورتها، وأنه على حق في كل تحذيراته للمسؤولين… فهل من يسمع ويتحرك قبل سقوط الهيكل على رأس الجميع؟!