كتب يوسف دياب في “الشرق الاوسط”:
ثلاثة عقود مرّت على انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، لكن مآسي اللبنانيين لم تنته بعد، بل تتنقل من أزمة إلى أخرى، بدءاً من الكهرباء إلى الاتصالات والمياه والنفايات وقطاع النقل. أما أحدثها، فهي الأزمة الاقتصادية والمالية التي تنذر بانفجار شعبي، بدأت ملامحه تظهر في تحركات شعبية على الأرض، وتهدد بقلب الطاولة، في حين تلجأ الدولة جرياً على عادتها إلى الحلول المؤقتة و«الترقيعية»، التي تخدّر الناس لأشهر قليلة، قبل أن تعود لتنفجر في مكان آخر.
جديد المآسي التي يتخبّط فيها اللبنانيون الآن، مثلثة الأضلاع: أولها أزمة المحروقات التي ستفتتح الأسبوع المقبل على إضراب مفتوح هدّد به أصحاب المحطات. والثانية إمكانية توقف الأفران والمخابز عن العمل. والثالثة – وهي الأخطر – ملامح أزمة في استيراد الأدوية…
الأزمات كلّها مرتبطة بارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل العملة الوطنية، لأن التجّار يشترون المواد بالدولار ويبيعونها للمستهلك بالليرة اللبنانية، في ظلّ عدم قدرة مصرف لبنان المركزي على الإمساك بهذه اللعبة.
وبعدما أقفلت بوجهها كل سبل الحلّ، قررت نقابة أصحاب المحطات وأصحاب الصهاريج وموزعو المحروقات الإضراب يوم الاثنين المقبل، ما لم تسفر الاتصالات الجارية عن حلول ترضي العاملين في القطاع.
ولقد اجتمعت الجمعية العمومية لأصحاب المحطات أمس، في منطقة الحازمية (ضواحي بيروت الشرقية) بحضور رئيس النقابة سامي البراكس ورئيس نقابة الصهاريج إبراهيم سرعيني وممثل موزعي المحروقات فادي أبو شقرا وعدد كبير من أصحاب المحطات والصهاريج. وإثر انتهاء النقاش أعلن البراكس أن الجمعية «اتخذت قراراً بالأكثرية، يقضي بإعطاء مهلة 48 ساعة للحكومة». وأردف: «نحن التقينا صباحاً الشركات (الموزعة للمحروقات أو الوقود) وبحثنا في الأمر وهي في انتظار حل المشكلة. وسيكون البيع والشراء بالليرة اللبنانية، والإضراب سيكون يوم الاثنين تحذيرياً، إفساحا في المجال أمام الاتصالات الجارية على أكثر من صعيد، ونتمنى أن يكون الإضراب كاملاً». ومن جانبه، أيّد رئيس نقابة الصهاريج إبراهيم سرعيني، اللجوء إلى الإضراب يوم الاثنين «ما لم تحل المشكلة، والصهاريج ستكون أمام الشركات من الساعة السادسة صباحاً». في حين تحدث فادي أبو شقرا باسم موزعي المحروقات فأكد «التزام الإضراب وضرورة التسعير بالليرة من الشركات ومنشآت النفط التابعة للدولة».
أزمة محروقات مفتوحة
إذن، يتجه لبنان نحو أزمة محروقات مفتوحة ابتداء من صباح الاثنين (بعد غدٍ)، وبخاصة، بعدما أعلن نقيب أصحاب محطات الوقود سامي البراكس أن «الشركات ستتوقف الاثنين عن توزيع المحروقات إلى محطات الوقود، ما سيؤدي إلى إفراغها من أي نقطة بنزين». وأكد لـ«الشرق الأوسط»، أن «النقابة بذلت المستحيل مع رئيس الحكومة سعد الحريري للوصول إلى حلّ، ولإقناع الشركات الموزعة بقبض ثمن المحروقات بالليرة اللبنانية، لكنه لم يتوصل إلى حلّ معهم». وتابع: «لن نقبل أن نستمرّ في شراء المحروقات بالدولار، ونبيعها للمستهلكين بالليرة اللبنانية، وبالتسعيرة الثابتة التي تحددها وزارة الطاقة ما يؤدي إلى خسارتنا». ثم استدرك فقال: «إذا تلقينا جواباً من رئيس الحكومة يتضمّن حلّاً مقنعاً، لا مشكلة، وإلا فسندخل بإضراب مفتوح والمحطات لن يبقى فيها نقطة بنزين».
لعنة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، لا تتوقّف على المحروقات، بل انسحبت على الأفران، وباتت تنذر بأزمة خبز. إذ شكا رئيس اتحاد نقابات المخابز والأفران في لبنان كاظم إبراهيم من «الأوضاع الاقتصادية الراهنة، ولا سيما الوضع النقدي الذي أثر سلبا على عمل المخابز والأفران، حتى بات صعباً على أصحاب هذه المؤسسات تسديد المستحقات المترتبة عليها بالدولار الأميركي بسبب فقدان هذه العملة من الأسواق». وأشار إبراهيم في بيان إلى أن «الأفران تبيع الخبز ومشتقاته بالليرة اللبنانية، في حين أنه يتوجب عليها تسديد ثمن الطحين وباقي المواد المستعملة في صناعة الرغيف بالدولار الأميركي، مثل الخميرة، والسكر، والنايلون، وقطع الغيار والمازوت (وقود الديزل)، لا سيما أن الموردين لا يقبلون التسديد إلا بالعملة الأجنبية، الأمر الذي يلحق خسائر فادحة بأصحاب المخابز والأفران نتيجة التحويل من الليرة إلى الدولار، وهذا ليس في قدرتهم تحمله في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة».
وأضاف نقيب الأفران، أن «الاتحاد سيدعو الجمعية العمومية لأصحاب المخابز والأفران للانعقاد قريباً، لاتخاذ القرار المناسب لمواجهة هذه الأزمة». وتابع إبراهيم: «أمام هذا الواقع المزري لم يعد باستطاعة قطاعنا تحمل الخسارة تلو الأخرى نتيجة لسياسات لا دخل لنا فيها، بل نتلقى نتائجها السلبية والتي قد تؤدي إلى توقف العمل في مؤسساتنا. لذلك فإن اتحاد نقابات المخابز والأفران يحذر جميع المسؤولين من أن أصحاب الأفران قد يتوقفون عن العمل قسرياً وليس بإرادتهم، بل بفعل الأزمة التي يمر بها القطاع بسبب الوضع الاقتصادي في البلاد».
التلاعب بسعر الدولار
وإزاء تنامي موجة الملاحقات القضائية لعدد من الصرافين، بحجة التلاعب بسعر صرف الدولار، وتداوله بسعر مرتفع في البيع والشراء، بخلاف السعر الرسمي المحدد من مصرف لبنان، عبّرت نقابة الصرافين عن استنكارها ورفضها، لما سمته «الغبن والإجحاف الحاصلين بحق الصرافين، والنيل من سمعتهم وملاحقتهم من عدة جهات قضائية وأمنية، نتيجة تقلب سعر صرف الليرة مقابل الدولار». وأوضحت في بيان أنها «ستعلن قرارها بتوقف كامل قطاع الصرافة عن العمل وصولا إلى إقفال محلاتها إذا استمر تجاهل حقيقة نشاطها القانوني واتهامها المجحف».
وفي قراءته لمشهد الإضرابات المتصاعدة، في مختلف القطاعات الأساسية، المتعلّقة بالحياة اليومية للمواطن اللبناني، اعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي، أن «التعميم الذي أصدره حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لجهة تأمين تمويل بالدولار لثلاث سلع أساسية أي المحروقات والدواء والطحين، لا يتناسب مع طبيعة عمل المستوردين»، مشيراً إلى أن التعميم «يطالب المستورد بالتصريح عن كامل البضاعة التي يريد استيرادها، بينما المستورد يؤمن طلبياته من الخارج على دفعات».
وأكد يشوعي في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تعميم البنك المركزي هو اعتراف صريح بسقوط تثبيت سعر صرف الليرة». وأوضح: «لا يوجد مصرف مركزي في العالم، مهما بلغت قوته واحتياطه النقدي، أن يثبت سعر الدولار، إذا كان يعمل ضمن نظام اقتصادي حرّ». وتابع شارحاً أن «المصرف المركزي لن يصمد طويلاً بهذه السياسة، وعليه أن يعترف بالأزمة، وبالدوامة التي وقع فيها لبنان نتيجة هذه السياسة، لأنه بعد سنوات ومن المراوغة دقّت ساعة الحقيقة». وعزا الخبير الاقتصادي تفجّر هذه الأزمة إلى «تدني نسبة التحويلات بالدولار من الخارج إلى لبنان، وتراجع الاستثمارات بشكل كبير، وإقفال الباب على الاقتراض الخارجي، واستمرار عجز الموازنة والهدر والفساد». واعتبر يشوعي أن «الخطأ الفادح ارتكبته الحكومات المتعاقبة، التي تسببت في ديون تقارب الـ100 مليار دولار، من دون بناء اقتصاد منتج».
اجتماعات ومشاورات
هذه الأزمات المتلاحقة، كانت أيضاً مدار بحث في الاجتماع الذي عقده وزير الصناعة اللبناني وائل أبو فاعور، مع رئيس جمعية تجار بيروت نقولا الشماس على رأس الجمعية، في حضور رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي شارل عربيد. ولقد أكد عربيد أن الاجتماع «عقد انطلاقاً من حرص وزير الصناعة على تأمين التوازن بين القطاعات الاقتصادية والمصلحة العامة من موقعه السياسي والوزاري، وتعويلاً على إدراكه لدقّة المرحلة، آملاً بأن تكون الانعطافة في الاقتصاد مرنة وفي إطار عملية تشاركية تستوعب الجميع ولا تترك ارتدادات على المستوى الاجتماعي». كما عبّر الشماس عن «نيات التجار الحسنة تجاه شخص الوزير أبو فاعور وتجاه الصناعة اللبنانية»، متمنّياً أن «تؤخذ القرارات الاقتصادية بطريقة تكاملية ولا تؤدي إلى إلحاق الضرر بقطاع على حساب آخر»، داعياً إلى «حماية الصناعة اللبنانية ولكن ليس على حساب القطاع التجاري».
أما الوزير أبو فاعور، فذكّر بأن «الخلاف العميق بالنظرة الاقتصادية هو حول دور لبنان»، مشدداً على أن «النهج القديم السائد والقائم على الريع والتجارة فقط، لا يمكن أن يستمر». وإذ دعا التجار إلى «اعتماد الحوار الهادئ البعيد عن الانفعال»، نصحهم «بعدم تحويل مشكلتهم إلى مشكلة مع وزارة الصناعة ولا مع الصناعيين». وكشف عن «تدابير إضافية تتعلق بتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل مع البلدان التي تعرقل تصدير منتجاتنا إليها».
وأثار وفد التجار مع وزير الصناعة «الإجراء الذي اتّخذته إدارة الجمارك مؤخراً فيما يتعلق بطلب تصديق فواتير البضائع المستوردة من السفارات في الخارج، بهدف منع التهرّب الضريبي والجمركي ومنع التلاعب بالفواتير وبقيمة البضاعة المستوردة وبالتالي لمنع التهرّب الضريبي». واعترف أبو فاعور بأن «هدف التدبير نبيل ولكن لدى التجار والصناعيين والمستوردين ملاحظات حول صعوبة واستحالة تطبيق التدبير».
وأعلن أبو فاعور، من جهته، أن «المخرج من الأزمة هو بالحوار الاقتصادي وليس بالشكوى والتحريض على بعضنا لدى السفارات، ولا تحريض الرئاسات (الجمهورية ومجلس النواب والحكومة) على الإجراءات التي تقوم بها وزارة الصناعة، فلا يمكن الاستمرار في النهج الاقتصادي الحالي، بل نحتاج إلى تغيير جذري في النهج الاقتصادي الحال».