كتب السفير د. هشام حمدان في صحيفة “اللواء”:
لم أكن أرغب في أن أكتب بشأن كلفة رحلة فخامة الرئيس إلى نيويورك، فقد كُتِبَ الكثير بهذا الصدد، لكنّني توقفت عند «تويت» خاص بسعادة النائب سليم عون بتاريخ 25 أيلول المنصرم قال فيه: إن «مواقف وكلمات فخامة الرئيس، لا تُقاس بتكاليف السفر إلا عند أصحاب النفوس الصغيرة، وهي عند الكبار لا تُقاس بثمن». وسعادة النائب كان عضواً في الوفد الرئاسي إلى نيويورك، حيث ألقى فخامته كلمة لبنان أمام المناقشات العامة للدورة العادية 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة وذلك بين 24 و30 أيلول 2019.
استفزّتني كثيرا هذه العبارات، فسعادته ذهب ليحتفل بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي رحّب بجهود فخامة الرئيس، لتغليب ثقافة السلام في لبنان، وإنشاء أكاديمية للحوار والتلاقي. ومن بديهيات هذا التوجّه أن نستخدم لغة في حواراتنا تدفع إلى التلاقي، وأنْ نتوقّف عن استخدام مثل هذه العبارات الاستفزازية التي استخدمها سعادته، والتي لا تُفيد إلا بإثارة الكراهية والبغض بين بعضنا البعض.
وعلى الرغم من أنّ سعادة النائب من مؤسّسي التيار الوطني الحر، إلا أنه بصفته الدستورية، هو أيضا، نائب الشعب ويفترض أن يتفهّم مشاعر الناس في هذا الوقت العصيب حيث إن الجميع يخشى على لقمة عيشه ومستقبل أطفاله ومصير وطنه، فالمبلع الكبير الذي دفعه لبنان لتمويل هذه الرحلة لم يكن مناسبا مع الوضع الذي تمر به البلاد.
وبالنسبة لهذه الحالة، ليس من المهم بالنسبة للمواطن مَنْ هو الذي أوصل البلاد إلى الحالة المزرية التي تعانيها، لكن المهم هو أننا لا نريد أن نستمر بسياسة الإنفاق غير المنتج، ونحن بالطبع، لا نذهب في عرضنا هذا الموضوع، مذهب أحد في التغطية على المسؤولين عن إهدار المال العام بل إننا نتفق مع ما قاله الكاتب د. علي مطر على موقع «العهد»، بأنّ التدهور الاقتصادي لم يأتِ إلا نتيجة سياسات من حكم البلاد لسنوات طويلة، لكنني أتوقف في هذه المقالة، عند ما صدر من مواقف دفاعية عن الكلفة العالية لرحلة الرئيس معتبرا أنها غير مقنعة وغير مناسبة.
فسعادة النائب يريد أن نتغاضى عن الكلفة العالية لرحلة فخامة الرئيس بحجّة أنّ كلمات ومواقف فخامة الرئيس لا تُقاس بثمن. كما أن أوساط مصادر مطلعة تضيف لموقع العهد بأنّ «موقف رئيس الجمهورية الذي يمثل لبنان في الأمم المتحدة، باتت تنتظره دول إقليمية ودولية عدة، بعد أن تحول لبنان البلد الصغير في الشرق الأوسط، إلى دولة لها ثقلها، وتشكل رادعا أساسيا للعدو الإسرائيلي بقوة جيشها ومقاومتها وشعبها ومواقف رئيس الجمهورية المتقدمة في الدفاع عن لبنان في وجه الاعتداءات الإسرائيلية».
في الواقع، إنّني أرجو أن يعذرني سعادته وأن تعذرني تلك الآوساط إذا قلت: إن الاستماع إلى كلمة فخامة الرئيس، ورؤية مشاهد الفيديو الذي نقل الكلمة، لم يمنحني أي إحساس يبرر فعلا تلك النفقات العالية للرحلة. لم يكن هناك أي وضع جديد بالنسبة للحالة الأمنية والواقع السيادي في البلاد، واستعراض الرئيس للممارسات العدوانية الإسرائيلية الأخيرة ضد لبنان هي حلقة أخرى من حلقات هذه الممارسات التي لم تتوقف منذ قيام دولة إسرائيل، بل أنها هذه المرّة، هي الأقل ضخامة قياسا بسابقاتها. وقد أصبحت هذه الممارسات لازمة في كلمة كل مسؤول لبناني يتحدث في محفل دولي. كما أن القاعة لم تكن مكتظة بالمستمعين الذين يلهثون عادة لسماع رئيس دولة «لها ثقلها». كان الحشد هو ذاته لكل كلمة تقال من على المنبر والحضور هم في معظمهم، من دبلوماسيي الصف الثاني والثالث يسجلون ملاحظات وفقا لعملهم الروتيني، لرفعها إلى حكوماتهم.
بالطبع هناك حالات عاشها لبنان نتيجة الممارسات الإسرائيلية أثارت مشاغل العالم لما كانت تشكله من تهديد للسلام والأمن الدوليين كما في اجتياحها لبنان عام 1978. غير أنه في حينه، لم يسافر الرئيس إلى الأمم المتحدة لهذا الغرض، ولم ينتظر العالم وصول فخامته للاستماع لصوت لبنان فقد جاءه مدويا من السفير غسان تويني الذي ما زالت كلمته الشهيرة «دعوا شعبي يعيش» تتردد في أروقة الأمم المتحدة، حتى الآن. كما أستذكر رحلة فخامة الرئيس الراحل الياس الهراوي إلى نيويورك عام 1996 لإلقاء كلمة في اللقاء الخاص الذي عقدته الجمعية العامة في حينه، لبحث شكوى لبنان ضد العدوان الإسرائيلي على قانا وما نجم عنه من ضحايا، ففي حينه ضج العالم بنبأ الضحايا البريئة التي سقطت في كنف قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة نتيجة قصف إسرائيل لمخيم القوات الدولية في تلك البلدة. وقد سعت إسرائيل إلى تحميل المقاومة المسؤولية فكانت صرخة لبنان واحدة حملها فخامة الرئيس، ودوّت بقوة منعت كل محاولات التورية على تلك الجريمة. في قانا كان الهدف الإسرائيلي هو المدنيين ومن دون أي لبس، وقد نتجت عنه ضجة شغلت الدبلوماسية الدولية طويلا، وأنا كنت شاهدا على فصولها.
كلمة فخامة الرئيس في حينه، كانت كلمة لبنان فعلا، كل لبنان، فالمقاومة في حينه كانت تسكن رموش العين لكل مواطن ومن كل الطوائف وكل المناطق. قال فخامته كلمة سطّرها التاريخ بشأن حدث دخل بدوره تاريخ الضمير الإنساني وترجمناه بقرار أممي يفرض على إسرائيل دفع ثمن لممارستها تلك. في تلك الجلسة امتلأت القاعة برمّتها فكلمة فخامته لم تكن كلمة لبنان فحسب، بل كلمة الإنسان الثائر لإنسانه في كل ركن من أركان العالم. في حينه، لم تدفع الدولة ربع تلك الكلفة العالية لرحلة فخامته.
وقد ذكر فخامته في كلمته، أن «جلسات المناقشة للجمعية العامة هذه السنة هي تحت عنوان دفع الجهود المتعددة الأطراف المتصلة بالقضاء على الفقر…»، ثم تحدّث عن معاناة لبنان نتيجة اللاجئين على أرضه. في الواقع، أريد أن أشير إلى أن المكسيك وهي إحدى أقوى الاقتصاديات في العالم ساهمت بمبلغ مليون دولار أميركي للمساعدة في إغاثة اللاجئين في لبنان. تُرى كيف ستنظر المكسيك إلى صرخة فخامته عن آثار اللجوء على الاقتصاد اللبناني عندما يصلها تقرير سفيرها في بيروت عن كلفة رحلة فخامته؟ ثم إنّ فخامته تحدث عن المناقشات المتمثلة بالفقر، فأي رسالة بعث بها إلى الأمم المتحدة بشأن الفقر في لبنان عندما يعلم هؤلاء عن كلفة رحلته؟
وأفادت الوكالة الوطنية للإعلام بأنّ عدد أعضاء الوفد الرسمي المرافق لرئيس الجمهورية لم يتجاوز الستين شخصا، لكن الوكالة لم تشر إلى المرافقين من خارج الوفد الرسمي. ومهما يكن العدد فإن الرقم المذكور يبقى عاليا جدا قياسا بظروف لبنان. ومن المؤكد أن جميع الذين رافقوا الرئيس حضروا كلمته أمام الجمعية العامة، أما عدا ذلك فلا أستطيع أن أفهم ماذا فعل كل هؤلاء في مبنى الأمم المتحدة. الوكالة أوضحت أن هذه المشاركة الواسعة تعود لأهمية الانجاز الذي تحقق نتيجة مباركة الجمعية العامة لمبادرة الرئيس إنشاء أكاديمية التلاقي والحوار الإنساني في لبنان، فهل هذا فعلا يستحق مثل هذه النفقة العالية؟
إلى سعادة النائب أقول: إن التقشف ليس معيبا بل هو من شيم الكبار أيضا، وما قدّمه كبار من أمثال فؤاد شهاب وكمال جنبلاط والرئيس سليم الحص والسيد موسى الصدر، يؤكد أن الكبر هو في التواضع وملامسة مشاغل الناس لا بالمظاهر.