شكّلتْ خلاصاتُ زيارةِ رئيس الحكومة سعد الحريري لأبوظبي حيث عُقد مؤتمر الاستثمار اللبناني – الإماراتي وما أعقبه من إعلان رفْع حظْر السفر إلى بيروت (ابتداء من يوم أمس) مع «وعْدٍ» بدعْمٍ مالي، إشارةً قوية إلى بدء استعادة لبنان المظلّةَ الخليجيةَ في غمرة الأزمة المالية – الاقتصادية البالغة الدقة التي يمرّ بها والتي باتت تستوجب استحداث ما يُشْبِه «مخرج الطوارئ» عبر «سلّم نجاةٍ» قوامه إجراءات داخلية إصلاحية واحتضان خارجي.
وفي حين لم تنتهِ زيارة الحريري، وفق ما ساد من توقّعاتٍ، بإعلان أبوظبي الدخول الفوري على خط احتواء الأزمة المالية في لبنان وذلك عبر وضْع وديعة في المصرف المركزي أو الاكتتاب بسندات الـ«يوروبوند» التي يُنتظر إصدارها في الأسابيع القليلة المقبلة، إلا أنّ ذلك لم يقلّل بأي شكل من الأهمية السياسية والاقتصادية لهذه المحطة التي عاد الوفد اللبناني ورئيس الحكومة تحديداً بآمال كبيرة بأن يُترجم قريباً الوعدُ «باستثمارات ومساعدات مالية للبنان، والعمل جار لحصولها».
وجاء كلام الحريري قبل عودة الوفد اللبناني إلى بيروت، بعدما مدّد الزيارة لأبوظبي يوماً إضافياً لاستكمال المباحثات، عن «أن الدعم الإماراتي لبلدنا اليوم أكبر منه في أي وقت سابق» ليؤشّر وفق أوساط سياسية – إلى جانب المناخ البالغ الإيجابية الذي ساد الزيارة ولقاء رئيس الحكومة مع ولي العهد الشيخ محمد بن زايد ال نهيان – إلى أنّ مرحلةً جديدة فُتحت في العلاقة بين الإمارات وبيروت يرجّح أنها من ضمن سياقٍ خليجي عام يُفترض أن يُترجم أيضاً خلال زيارة الحريري المرتقبة للرياض أواخر الجاري أو أوائل نوفمبر لتوقيع عدد من الاتفاقات، وذلك على وقع محاولة رئيس الوزراء اللبناني اعتماد لغةٍ تدعو المجتمعيْن العربي والدولي للإبقاء على «الخيط الفاصل» بين «حزب الله» والدولة على قاعدة التمييز بين «جناحه الإقليمي» وحضوره في الحكومة.
ورغم تقديم الإمارات للبنان ما يشبه «الشيك المؤخر» (الدفع) في ما خص الدعم المالي وطبيعته، فإن هذا لا يقلّل من التأثيرات «المعنوية» والمادية التي سيتركها قرار رفع حظر السفر بانعكاساته السياحية وإعطائه علامة ثقة بالبلاد، ولا سيما أن الإمارات كانت الأكثر تشدُّداً لجهة طلب ضمانات تتعلق بأمن مطار رفيق الحريري الدولي وطريق المطار وفق ما كانت سمعتْه «الراي» من قادة أمنيين في لبنان، كما مجمل ما خلص إليه المؤتمر الاستثماري الذي يؤسس حكماً لحركة استثمارية تنعكس إيجاباً على أكثر من صعيد.
وإذ يجري رصْد الترجمات لزيارة أبوظبي بعدما تم تشكيل «خلية متابعة» لما جرى بحْثه، فإن الرهانات على إيجابياتها تبقى مرتبطة بقدرة لبنان على إمرار الأشهر الثلاثة المقبلة الصعبة بما تقتضيه من إظهار جدية في إطلاق قطار الإصلاحات الهيكلية والبنيوية، ولا سيما في قطاع الكهرباء وفيما خص القطاع العام وكلفته على الخزينة وضبْط العجز، وذلك بما يُوجّه رسالة ينتظرها الخارج لبدء تسييل مقررات مؤتمر «سيدر» تباعاً كما لاستقطاب دعمٍ مباشر وفي أقرب وقت لتفادي أي انزلاقٍ نحو «حرْق مراكب العودة» من الأزمة التي عاشت البلاد في الأسبوعين الأخيرين أول مَظاهرها وعاينتها «بالعين المجرّدة» مع شحّ الدولار من الأسواق.
وكان الحريري الذي بدا في زيارته لأبوظبي، كما في محطاته اللاحقة في برلين والرياض وباريس، كمَن يتحرّك على طريقة «اسعَ يا عبدي وأنا أسعى معك»، عبّر عن ارتياحه الكبير لمآل اللقاء مع الشيح محمد بن زايد ومؤتمر الاستثمار، وهو أكد في دردشة مع الصحافيين قبيل مغادرة الإمارات «أعود ولبنان كله مدعوم من دولة الإمارات، وليس سعد الحريري»، كاشفاً «هناك وعدا من الإماراتيين باستثمارات ومساعدات مالية للبنان والعمل جار لحصولها».
وقال الحريري: «شرحنا ما نخطط القيام به خلال الأعوام القليلة المقبلة من إصلاحات (…) وقريباً إن شاء الله سنسمع أخباراً جيدة في ما يخص الاستثمار ودعم لبنان واقتصاده»، وأضاف: «أدعو لأن نبقى في الجو الإيجابي، وخصوصاً أن الخطوة الأصعب بالنسبة إلى الإماراتيين كانت رفع حظر سفر إلى لبنان، وقد تمت. والآن نتفاوض معهم بشأن الاستثمارات التي يرغبون بها في مختلف القطاعات، إلى جانب استثمارات مالية في بعض المصارف أو في البنك المركزي».
وعاد رئيس الحكومة إلى بيروت، التي ما زالت تحاول احتواء عوارض نقص الدولار، سواء عبر رسْم «حدود» للسوق الموازية (الصيارفة) بما يخفف من الفوارق الكبيرة مع سعر الصرف الرسمي (يراوح بين 1507 ليرات و1515)، أو توضيح آليات التعميم الذي أصدره مصرف لبنان ووفّر بموجبه «العملة الخضراء» بالسعر الرسمي لتغطية استيراد المحروقات والقمح والدواء وسط صعوباتٍ يواجهها القطاعان الأخيران في التكيف مع موجبات التعميم وضوابطه، يمكن أن تُنْتِج أزمة على هذا الصعيد بدأت تلوح على مستوى أفران الخبز.
ولا تقلّ صخَباً تحركات اعتراضية تشهدها بيروت، بعضها «استباقي» لما يمكن أن تُضَمِّنه الحكومة موازنة 2020 أو تقرّه في موازاتها من إجراءاتٍ تمس القطاع العام ونظام التقاعد وهو ما تعبّر عنه اليوم تظاهرات «طيارة» للعسكريين المتقاعدين، في موازاة «الصرخة» التي يطُلقها غداً تجار بيروت بالإضراب ساعةً رفضاً لأي تدبير ضريبي يمس باستمرارية القطاع التجاري الذي بات «كومة حطام».
وفي موازاة هذا «الضجيج»، ووسط مضيّ قريبين من رئيس الجمهورية ميشال عون باعتبار الأزمة الاقتصادية في جانب منها «نوعاً من المؤامرة» على ما قال وزير الخارجية جبران باسيل، فإن ما واكب انزلاق السلطة السياسية نحو «المقاربة الأمنية» لما وُصف بـ«إشاعات» تمس بثبات النقد بدأ يترك تفاعلات تنذر بمضاعفات كبيرة ولا سيما بعد إعلان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط رداً على ملاحقاتٍ حصلت بحق أفراد في حزبه «فليطمئنّ العهد وأزلامه فكلما اعتقلتم فرداً منا زاد الكره تجاهكم وتجاه أمن الدولة وعصابته (…) البلاد لا تُحكم بالقهر والاستبداد والسرقة والجوع (…)»، وهو ما لاقاه النائب مروان حماده مستنكراً «الممارسات الشائنة لدى بعض القضاة وأحد الأجهزة الأمنية، من المرتمين في أحضان أهل البلاط»، محذراً من «هذا الجور القضائي – الأمني المشترك الذي على ما يظهر يحنّ الى عهد الوصاية البائدة ويستمد منها البطش والظلم».