إذا استمرت الطبقة الحاكمة بالتعامل مع الأزمات باستخفاف، فإنه لن يطول الوقت قبل أن تندلع أزمة طحين وخبز في البلاد أكثر سوءاً من أزمة الوقود قبل أسبوعين. أما في الحكومة، فالردّ على ضرورة التنسيق مع سوريا للاستفادة من معبر البوكمال كان ضغوطاً واستفزازات لرئيس الحكومة سعد الحريري من قبل وزراء الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية
تعالج قوى السلطة أزمة شحّ الدولار وتمويل السلع الأساسية بالمفرّق بعد معالجتها بخفّة. فمنذ إصدار مصرف لبنان التعميم الرقم 530 الذي يحدّد آلية تمويل استيراد المشتقات النفطية والدواء والقمح بالدولار، تبيّن أن هناك اعتراضات جوهرية على التعميم كونه يرتّب خسائر كبيرة على كارتيل النفط، ولا ينطبق على مستوردي الدواء والقمح.
مع ظهور المشاكل، ركّز رئيس الحكومة سعد الحريري جهوده على حلحلة مشاكل كارتيل النفط كونه الأكثر نفوذاً بين باقي الكارتيلات، فقطع تعهداً عليهم بمعالجة مشكلتهم مع سعر الدولار في السوق، ما دفعهم إلى تعليق الإضراب وتسليم المشتقات النفطية للمحطات بالليرة، وبقيت مسألة الدواء والقمح عالقة من دون أي استجابة.
ورغم أن مشكلة مستوردي القمح مشابهة لمشكلة مستوردي الدواء، إلا أن رئيس الجمهورية ميشال عون أجرى أمس اتصالاً بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة بهدف معالجة استيراد الدواء حصراً، ما أبقى مستوردي القمح عالقين. لجأ هؤلاء إلى التكتيك نفسه الذي نفذه مستوردو النفط، أي دفعوا أصحاب الأفران إلى الإضراب كما دفع مستوردو النفط أصحاب المحطات إلى الإضراب. النتيجة في الحالتين تهديد بانقطاع السلعة، ما أدّى إلى استجابة وزير الاقتصاد منصور بطيش لأصحاب الأفران واستقبلهم أمس في لقاء للاطلاع على مشكلتهم مع التعميم.
إلا أن البيان الصادر عن تجمع أصحاب المطاحن في لبنان يكشف رفضهم للتعميم بوضوح. ويؤكّد البيان أن أصحاب المطاحن اتخذوا قراراً ببيع الطحين وقبض ثمنه بالدولار، معلنين تضامنهم مع قطاع الأفران لجهة عدم قدرتهم على تسديد المترتّب عليهم بالدولار غير المتوفر بالسعر الرسمي، وأن المخزون لدى المطاحن بدأ يتناقص ويتراجع بشكل كبير وخطر.
خفة التعامل مع الأزمة تظهر من مكان آخر. فرغم وجود الدولار في الأسواق، إلّا أن سعر الصرف سجّل أمس في السوق المحلية 1613 ليرة للدولار الواحد. وهذا الأمر إن دلّ على شيء، فإنه يؤكّد مجدداً أن مصرف لبنان والحكومة يتعاملان مع الأمر كأنه واقع، أي وجود سعرين للدولار، واحد رسمي وآخر في «السوق السوداء». وليس مبرَّراً تقاعس الحكومة عن التحرّك ولم تستدع سلامة لسؤاله عن الأمر، وخصوصاً أن قانون النقد والتسليف يلحظ في المادة 72 منه أن «الحكومة تستشير المصرف (المركزي) في القضايا المتعلقة بالنقد وتدعو حاكم المصرف إلى الاشتراك في مذكراتها حول هذه القضايا».
وفي السياق، لم تخرج جلسة مجلس الوزراء، أمس، بقرارات بارزة، إنّما اكتفت بنقاش الاقتراحات الواردة في لجنة الإصلاح المالي والاقتصادي. وعدا عن التوجّه الإيجابي لإقرار قانون ضمان الشيخوخة وقانون الجمارك والقانون الضريبي، طغى على الجلسة سجال اقتصادي/ سياسي من نوع آخر.
ضمن نقاش الموازنة والإصلاحات، ولا سيّما ضرورة تنشيط الاقتصاد وعلاج العجز في ميزان المدفوعات وتأمين العملة الصعبة، وضع الوزير محمد فنيش مسألة انعكاس فتح معبر البوكمال بين سوريا والعراق كمعطىً وجب على الحكومة التعامل معه. كلام فنيش، الذي طرحه من خلفية اقتصادية، أحدث لاحقاً سجالاً كبيراً بين الوزراء، اشترك فيه الحريري، الذي طلب أن لا يخرج الأمر إلى الإعلام. لكن على الرغم من تمنّيه، حاول الوزير وائل أبو فاعور ووزراء القوات استثمار ما حصل في الجلسة لتحويله إلى «انتصار» شعبوي إعلامي.
وبحسب المعلومات، فإن فنيش اقترح أن تتم الاستفادة من فتح المعبر عبر الانفتاح على السوق العراقي الكبير، وخصوصاً أن المنتوجات اللبنانية مطلوبة عراقياً، والتكلفة عالية لمرور البضائع عبر معبر نصيب الأردني (في جنوب سوريا)، والتي تصل إلى 1800 دولار للشاحنة الواحدة، كما أكد وزير الزراعة حسن اللقيس. وطَرْحُ فنيش الذي يقوم على أساس أن الحكومة معنية بمعالجة هذه المسألة مع سوريا، أيّده سريعاً وزير الخارجية جبران باسيل، الذي كشف أنه تحدّث بالأمر مع الحريري قبل يومين واقترح أن يتمّ تكليف وزير محدّد بشكل رسمي من قبل الحكومة للتفاوض مع سوريا. بدوره، أكّد الحريري أن الوزير يوسف فنيانوس كان قد فاتحه بالموضوع قبل أسبوع. بينما لم يتوقّف وزير الدولة لشؤون التجارة الخارجية حسن مراد منذ أشهر عن طرح موضوع نصيب، ولاحقاً البوكمال، في التداول الإعلامي، مطالباً بالحوار مع سوريا بشأن تفعيل هذه الخطوط التجارية المهمة.
وكشف الحريري أن الأردن يتفاوض مع الأميركيين منذ مدّة لأجل السماح له بمدّ لبنان بالكهرباء (500 ميغاوات) عبر سوريا، مبلغاً الوزراء أنه إذا نجح الأردنيون في إقناع الأميركيين، فإنه سيوافق سريعاً على الأمر لما فيه مصلحة لبنان.
كلام الحريري والوزراء، أصاب أبو فاعور والوزيرة مي شدياق بغضبٍ، فراح كل منهما يحوّل الطرح إلى طرح سياسي، وما يسمونه «الاعتراف بالنظام السوري»! وفي محاولة منهما للضغط على الحريري، سأل أبوفاعور وشدياق الحريري كيف يقبل أن يكلّف وزير بشكل رسمي للتفاوض مع سوريا، بينما هناك «حكم بالإعدام» صادر عن القضاء السوري بحقّه. بدوره، اعترض الوزير كميل أبوسليمان أيضاً على طرح باسيل وفنيش، قائلاً إن هناك وزراء يزورون سوريا وتغضّ الحكومة الطرف، فتدخّل باسيل وأكّد أنه لا يمكن أن تستمر الأمور كذلك، وأنه يجب تكليف وزير بصورة رسمية. وبعد تطوّر النقاش، طلب الحريري أن يتم تأجيل الأمر وأن يبقى بعيداً عن الإعلام.
ولم يكتف أبوفاعور بتحويل الموضوع إلى سياسي، بل اعترض على بيان وزارة الخارجية الذي يدين العدوان التركي على سوريا، معتبراً أن الموقف خرق للنأي بالنفس، فما كان من باسيل إلّا أن ذكّره بمواقف الدول العربية الشاجبة للعدوان وبموقف الجامعة العربية، سائلاً: «هل من أحد على هذه الطاولة مع اعتداء أي دولة أجنبية على أي بلد عربي؟».
من جهته، علّق الوزير فنيش في اتصال مع «الأخبار» على ما دار في الجلسة، مؤكّداً أن «بعض الفرقاء يعيشون في أوهام وعصبيات ولا تفرق معهم مصلحة البلد». وقال وزير الشباب والرياضة: «نحن كفريق سياسي مستهدفون أميركياً بشكل مستمر، ومع ذلك لا نطالب الحكومة بمواجهة هذا الاستهداف، وعندما يطرح أحد مسألة تخصّ العلاقة مع أميركا ويقول لنا من أجل مصلحة البلد، فنحن لا نعرقل، مع اقتناعنا بأن كل ما يأتي من أميركا ضد مصلحة البلد. انطلاقاً من هذا الموقف، طرحنا ضرورة بحث مسألة معبر البوكمال مع سوريا، لكن يبدو أن البعض يسعى إلى القول إنه «يتصدّى»، لا نعرف يتصدّى لماذا أو لمن؟».