IMLebanon

آخر أحراج بيروت يقاوم الإسمنت

كتبت مريم سيف الدين في “نداء الوطن”:

 

حضور “رفيع” شهده حرج بيروت يوم الاثنين في الثلاثين من أيلول. ضجّة واحتفال وإعلام لتدشين تأهيل مسارين للركض والمشي، وتأمين 20 مقعداً للاستراحة في الحديقة الخارجية، و10 سلال لفرز النفايات، ضمن المرحلة الأولى من مشروع حرج بيروت. بينما لا يبدو واضحاً حتى الآن البدء في أي خطوة فعليّة لتحسين الحرج وإزالة المخالفات المقامة على أرضه وتوسعة مساحاته الخضراء، تنفيذاً لقانون “حماية حرج بيروت” الذي أقرّه مجلس النواب بتاريخ 30 نيسان الماضي.بعد خمسة أشهر…أين الخطة؟

حاولت “نداء الوطن” التواصل مع المعنيين لمعرفة ما إذا كانت البلدية والمحافظة قد بدأتا بتنفيذ القانون الذي أقرّ منذ نحو خمسة أشهر، وألزَم المجلس البلدي لمدينة بيروت بوضع خطة لإزالة المخالفات تتضمن مدة زمنية محددة لتنفيذها. لكننا لم نحصل على إجابة عن سؤالنا وبدا واضحاً من كلام مسؤول في بلدية بيروت أنّ لا فكرة لديه عن مناقشة أيّ خطة للبلدية في هذا الشأن أو تحديد أي مدة زمنية لإزالة المخالفات. ما يوحي بأنّ المجلس البلديّ لم يطرح الموضوع على طاولته، أو أقلّه لم يدرس أيّة خطة في هذا الإطار.

وذكّر قانون حماية حرج بيروت الذي أقرّه مجلس النواب بمساحة الحرج الذي “يمتد على كامل المساحة الواقعة بين جادة عمر بيهم وجادة عبد الناصر وجادة حميد فرنجية من العقار 1925 من منطقة المزرعة العقارية”. ولحظ القانون حتى المساحات التي تم اقتطاعها من العقار المذكور بهدف إنشاء طرقات، “فهي لا تزال تشكل جزءاً من العقار المذكور ويجب تشجير الأجزاء المتاحة منها”.

يشكّل الحرج اليوم رئة بيروت ومتنفّسها الأخير، كونه المساحة الخضراء الوحيدة المتبقية في عاصمة اجتاحها الباطون وتلاصقت أبنيتها ببعضها. وتقاتل اليوم للحفاظ على آخر مساحاتها الخضراء، المحاطة بالأطماع، وعلى ما تبقى فيها من أشجار صنوبر كانت مضرب الأمثال. لا أمل لبيروت اليوم بمزيد من المساحات الخضراء، بل بمحارق للنفايات ستنفث المزيد من الغازات الضارة في سمائها، وستتفلّت من أيّة رقابة موعودة كضمانة، فهذا ما اعتدناه في لبنان، لتعلو فوق أشجار الصنوبر. الأشجار التي كان يهدد الناس بنشر بعضهم فوقها، لدى التهديد بفضح أحد، في دلالة أن لا شيء أعلى منها. واليوم لم يعد الصنوبر رمزاً لبيروت، وإنما شجرها المهدد بالانقراض.

 

تقلّص وتقطّع لكنه باقٍ

نجا الحرج من عدّة محاولات اعتداءات بينما سقط في اعتداءات أخرى. لتتراجع مساحته من نحو مليون و250 متراً مربعاً، إلى حوالى 333 ألف متر مربّع مهدّد دوماً بالتقلص. وأنشئت فوقه الطرقات فقطّعته إلى أجزاء مترامية، بعضها مهمل. وفيما يفترض البدء بإزالة التعديات والإنشاءات القائمة على الحرج، يستمرّ العمل على إنشاء “المستشفى الميداني العسكري المصري” في الحرج. وهو مستشفى ميداني أرسل إلى لبنان بعد انتهاء حرب تموز في العام 2006 وتمركز داخل حرم جامعة بيروت العربية، يقدم معاينات وخدمات استشفائية لأشخاص من جنسيات مختلفة.

يعبّر المدير التنفيذي لجمعية “نحن”، محمد أيوب، عن تفاجئه باستمرار العمل بمبنى المستشفى المصري على الرغم من صدور القانون. ويؤكد أيوب إمكانية نقل المستشفى إلى مكان آخر، “ففي بيروت 35 مستوصفاً مقفلاً يمكن منح أحدها كمركز للمستشفى”. ووفق أيوب فإن المستشفى لا يملك رخصة من وزارة الصحة، كما ادّعت عليه وزارة البيئة ولم توافق وزارة الدفاع على انشائه، “أعتقد أن للمستشفى هدفاً غير واضح”.

يقدر أيوب نسبة مساحة الحرج التي جرى التعدي عليها بنحو 75% من مساحته، “تبقى اليوم نحو 300 ألف متر مربع من مساحة الحرج، مساحة لا تلقى الاهتمام الكافي من البلدية”. في هذا الوقت يعدُ أنطوان كلداني، رئيس نادي “روتاري بيروت سيدرز” الذي أنجز المرحلة الأولى من مشروع الحرج، بإتمام المرحلة الثانية، وتشمل تجهيز قسم من الحرج بالمعدات اللازمة لمختلف تمارين اللياقة البدنية، وإقامة منطقة تضم ألعاباً للأولاد. يرى أيوب أن الحرج بحاجة إلى تجهيزات أكثر، ويحتاج إلى إنشاء حمامات ومسرح للأطفال وساحة المثلث التي كانت جزءاً من المخطط وتجهيز موقف للسيارات وتحسين الإنارة، وإنشاء المدرسة الخضراء للتعليم عن الطبيعة “فللحرج دور بيئي أيضاً”.

 

وتماشياً مع واقع الحرج وحاجاته، أطلقت جمعية “نحن” نهار الأربعاء الماضي، مسابقة “نحو رؤية بديلة لحرج بيروت” بالتعاون مع جمعية بيروتيات وبرعاية نقابة المهندسين في بيروت. وتهدف المسابقة إلى خلق تصورات بديلة لحرج بيروت والمنطقة المحيطة به من خلال دعوة طلاب وأصحاب مهن (من معماريّين ومصمّمين حضريّين ومخطّطين مُدنيّين ومصمّمي الحدائق والمشهديّة العامّة وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا ومحامين وبيئيّين وغيرهم من أصحاب الإختصاص في هذا السياق) إلى تقديم مقترحات بحثيّة وتصميميّة وتخطيطيّة بالإضافة الى إطار قانوني ملائم لها، بهدف توظيف مقوّمات حرج بيروت بما يتناسب مع طبيعته ووظيفته كمساحة عامّة جامعة، بهدف تعزيز الدمج الاجتماعي والثقافي، وتحفيز النقل السلس في المدينة، وخلق مساحات عامّة غنيّة وسهلة الوصول، بشكل يدعم المجتمعات المحليّة المجاورة ويرفع صوتهم ويقوّي تفاعلهم مع بعضهم البعض ويوطّد علاقاتهم ببعضهم البعض وبالحرج. ووفق أيوب فإن التصاميم الأفضل ستقدم إلى البلدية، وسيتم الضغط من أجل اختيار أحدها والعمل على تنفيذه.

واقع الحرج

اليوم يفتح الحرج أبوابه أمام الجميع، من الساعة السابعة صباحاً وحتى السابعة مساءً يومي السبت والأحد، ومن الساعة السابعة صباحاً حتى الواحدة بعد الظهر خلال أيام الأسبوع. لينعم شباب اليوم بفرصة حرم منها جيل سابق على مدى 24 عاماً منع خلالها من الدخول إلى الحرج، الذي كان يسترجع أنفاسه خلالها. لا يبدو أيوب راضياً عن مواعيد فتح الحرج المحددة ولا عن طريقة فتحه. حيث “تقفل البلدية جميع الأبواب باستثناء الباب لجهة منطقة بدارو، لأنها لا تريد أن يدخل الناس إلى الحرج. ويهدف خفض دوامات فتح الحرج خلال أيام الأسبوع، أي تزامناً مع دوامات العمل، إلى الحد من دخول الناس إلى الحرج”. ويتّهم أيوب المعنيين بتقسيم الحرج تقسيماً طبقياً، “فالحرج مقسّم الى قسمين، أحدهما لجهة منطقة طريق الجديدة، مهمل ومفصول عن القسم الثاني الواقع لجهة منطقة بدارو. جهة الفقراء مفصولة عن جهة ومداخل القسم الذي يبدو وكأنه مخصص للأغنياء ويلقى اهتماماً ورعايةً”. يستبعد أيوب أن يكون السبب النقص في عدد الموظفين “ففي بلدية بيروت اكثر من 800 حارس، يمكنهم فتح جميع الأبواب وإطالة دوامات فتح الحرج. أما الخشية من رمي النفايات فهي غير مبرّرة، إذ يفترض أن يسجّل محضر ضبط بمن يخالف القانون ويرمي النفايات داخل الحرج، بدل أن يجلس المراقبون الصحيون في مكاتبهم ولا يعملون. عندها لن يجرؤ أحد على رمي النفايات”.

 

يتخوّف مدير جمعية “نحن” من إقامة إنشاءات جديدة على أحد أجزاء الحرج الذي تحوّل إلى “بورة” ترمى فيها السيارات غير الصالحة للسير. وقامت “نحن” بغرس عدد من الأشجار فيها. ويدعو أيوب البلدية إلى تشجير هذه القطعة من الأرض كي لا تنشأ فوقها التعديات. بينما يبدو أن إهمال هذه القطعة مقصود. يلاصق البورة جزء آخر من الحرج، سمح شبيب لجمعية “مارش” بإنشاء مقهىً عليه، يقيم الورش التدريبية، لكن هذا المقهى يبيع النرجيلة ويسمح بتدخينها على أرض الحرج. جزء آخر من الحرج أثيرت ضجة حوله في أيلول من العام الماضي بعد أن قطعت أشجار الصنوبر وجرفت الرمول تمهيداً لإقامة ثكنة للأمن العام. لكن احتجاجات الجمعيات وإضاءة الإعلام على المخالفة التي قام بها جهاز “يفترض أن يلتزم بالقانون” نجحت في دفع المديرية العام للأمن العام لإعلان التراجع عن قرارها ووعدت بتحويله إلى حديقة عامة. على الرغم من عدم البدء بتنفيذ هذا الوعد، وإعادة غرس الأشجار، غير أنّ التراجع عن المخالفة شكّل بادرة ايجابية. فالمديرية العامة للأمن العام كانت أكثر التزاماً بالقانون وتراجعت عن خطئها. على العكس من قوى الأمن الداخلي التي استولت في العام 2008 على جزء من الحرج وأنشأت عليه مبنيين، في مخالفة للقانون الذي يمنع ذلك.

الحرج الذي كان خط تماس أثناء الحرب الأهلية اللبنانية عاد إلى ما يشبه خط تماس بين منطقتي قصقص والطيونة مع تشكل اصطفافات سياسية وخلافات مذهبية جديدة، بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في العام 2005. الموتى أيضاً ينقسمون مذهبياً في الحرج. ففيه أنشئت بشكل مخالف أيضاً مقبرة الشهداء التي يدفن فيها الموتى من الطائفة السنية. بينما يدفن الموتى الشيعة في روضة الشهيدين، وكسبت هذه المقبرة رمزية كبيرة في السنوات الأخيرة بعد دفن أبرز قادة “حزب الله” فيها. اعتداءات المؤسسات الدينية على الحرج لم تقف عند حدود المقبرتين. بل تعدتهما، وبقرار من بلدية بيروت، إلى إنشاء مسجد الإمام الصادق التابع لجمعية محمد مهدي شمس الدين الخيرية الثقافية، ومعه مدرسة الضحى ومعهد للادارة والاعمال. وهو مسجد يحاول المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى منذ سنوات السيطرة عليه واعتباره خاضعاً لأملاك أوقاف الطائفة الشيعية. كذلك تعتدي منشأة عبد الهادي الدبس للتنمية الفكرية لخدمة الأشخاص ذوي الاحتياجات العقليّة والتابعة لجمعية المقاصد على الحرج. فوق الحرج أيضاً بني في العام 1983 مبنى كشافة الرسالة الاسلامية وشُرّع بدوره بقرار بلدي في العام 1995.

 

أعيدوه إلى ما كان عليه قبل الحرب

في حديث إلى “نداء الوطن” يتذكر جورج بطيخة، والذي كان يشغل منصب رئيس مصلحة الحدائق في بلدية بيروت، أنّ الحرج في العام 1974، أي قبل عام من بدء الحرب الأهلية، كان حديقة عامة مجهزة تضمُّ بحيرةً وبركاً ونوافير مياه وطرقات وإضاءة. ووفق بطيخة فإن إغلاق الحرج لسنوات مردّه إلى الوقت الذي تطلّبته عمليّة إعادة تأهيله إضافة إلى النقص في عدد الموظفين. “فالأشجار كانت صغيرة وتحتاج إلى الرعاية، كذلك كانت مصلحة الحدائق في البلدية بحاجة إلى موظفين وعمال صيانة”.

يروي بطّيخة أنّ الحرج تحول أثناء الحرب الأهلية إلى خطّ تماس بين المتحاربين، وقصفته إسرائيل في العام 1982 فأحرقته. “في الثمانينات استهدفت إسرائيل الفلسطينيين الذين كانوا يسيطرون على الحرج فأحرق ولم يبق من أشجاره سوى 300 شجرة. اليوم لم يتبق من الحرج سوى المثلث. العديد من المخالفات المرتكبة فيه شرّعت بموجب قرار من وزير الداخلية وهي مخالفة”. يتابع بطيخة: “في العام 1994 أعدنا تشجير الحرج وانهيناه في العام 1997. كنّا قد انتظرنا نحو 4 سنوات لتوافق بلدية بيروت على إعادة التحريج”. وبعد أن عاد الحرج إلى الحياة، عانى في العامين 1997 و1998 من شحّ المياه وجفّت آباره، فعملت مصلحة الحدائق مع الجيش على نقل المياه بالخزانات إلى الحرج وأنقذت4500 شجرة صنوبر، وفق بطيخة.

بعد أكثر من ربع قرن على البدء بإعادة تشجير الحرج، يؤكد بطيخة أن المراحل الثلاث التي كان من المفترض تنفيذها لم تنفّذ كلها، واكتفت بلدية بيروت بالمرحلة الأولى منها. ووفق بطّيخة كان يفترض إنشاء حديقة علمية، تحتوي على أنواع نباتات وأشجار وشجيرات لبنانية، وحديقة للورود ومسرح، “كلها لم تحصل”. الهدف منها سياحي لجذب الزوار إلى الحرج ولإقامة الاحتفالات. ويؤكّد بطيخة بأنه أجرى دراسة لهذه الغاية وتقدم بها إلى بلدية بيروت عام 2015 لكنها لم تحظ بموافقتها.

 

في آذار من العام 2017 واجه الحرج أطماع الدود أيضاً، فاغلقته البلدية لمعالجة مشكلة انتشار دودة الحفار في شجر الصنوبر، ورش المبيدات منعاً لانتشارها في بقية الأشجار. يومها شكّك المواطنون بأسباب إقفاله وتخوفوا من حرمانهم مجدّداً من الدخول إلى الحرج. أما اليوم فيتمتّع العديد من المواطنين بنزهة داخل الحرج خلال عطلات نهاية الأسبوع، كما تقام فيه المهرجانات والاحتفالات. بينما يغفل مواطنون آخرون عن جمال وأهمية المساحة الخضراء المميّزة في العاصمة، بهضباتها وأشجارها الجميلة. مساحة يفترض بالبلديّة أن تبدأ العمل في أسرع وقت ممكن على إزالة المخالفات عنها وتوسعتها. بل والعمل على إنشاء حدائق ومساحات خضراء جديدة. فلنتحمس لإنشاء مساحات خضراء بقدر حماسنا لإنشاء محارق.