مرة جديدة، اضطر الناس إلى الوقوف في طوابير أمام محطات المحروقات. لكن هذه المرة انضمّ إليهم الساعون إلى رغيف الخبز الذي يتوقّع أن يفقد من الأسواق الاثنين، في ظل تلويح مستوردي الدواء بأزمة قريبة أيضاً. سريعاً، حلّت مشكلة مستوردي المحروقات. لكن هذا الحل، الذي لا يضمن أحد عدم تكراره، لن يقي السكان في لبنان الإذلال الذي يمارسه بحقهم المحتكرون والسلطة. بكلام أدقّ، هي طبقة واحدة تضمّ المحتكرين وشركاءهم وممثّليهم في السلطة. فالحكومة تملك خيار رفع سيف الذل عن الناس، باستيراد النفط والقمح والدواء عبر مؤسسات الدولة، لكنها لن تلجأ إلى هذا الخيار، رغم أنها وعدت أمس بدرس احتمال استيراد المحروقات من قبل منشآت النفط التابعة لوزارة الطاقة، لكسر احتكار الشركات الخاصة لهذه السلعة الأساسية.
مرة جديدة، تُثبت الطبقة الحاكمة فشلها في تأمين أساسيات ما يحتاج إليه السكان في لبنان. أرتال السيارات أمام محطات الوقود، مشهد تكرر للمرة الثانية في غضون أسبوعين. لكن هذه المرة أضيف مشهد ازدحام الناس في الأفران سعياً وراء ربطة خبز. السبب لم يتغيّر: أزمة صرف الدولار. تلك الأزمة التي ظن البعض أنها حلّت بمجرد إصدار حاكم مصرف لبنان، في 30 أيلول الماصي، تعميماً يمكّن المصارف التي تفتح اعتمادات مستندية مخصصة حصراً لاستيراد المشتقات النفطية أو القمح أو الأدوية أن تطلب من مصرف لبنان تأمين قيمة هذه الاعتمادات بالدولار، سرعان ما عادت لتهدّد بأزمة رغيف وبنزين. بحسب رئيس نقابة أصحاب المحطات سامي البراكس، لم يدُم مفعول التعميم أكثر من ثلاثة أيام، كان أصحاب المحطات يدفعون فيها ثمن المشتقات النفطية للمستوردين بالليرة اللبنانية. ولأن المصارف عادت لترفض فتح اعتمادات بالدولار، استمرت الأزمة في المراوحة إلى أن حل يوم أمس، فأعلنت نقابات المستوردين وأصحاب المحطات والموزعين الإضراب، فيما سبقتها نقابة الأفران إلى إعلان الإضراب يوم الاثنين المقبل. كذلك حذّر أصحاب المولدات من احتمال توقفهم عن العمل في غضون أيام إذا توقف استيراد النفط. وكل ذلك ترافق مع استمرار تداول الدولار لدى الصرافين بسعر يتجاوز الـ 1600 ليرة.
أما السلطة، التي يفترض أن تكون في مواجهة هذه الأزمات، فغابت تماماً، بل تعيش حالة نكران شبه تامة لوجود أزمة حقيقية في البلاد. وحتى يوم أمس، لم يكلّف مجلس الوزراء نفسه عناء عقد جلسة يخصصها لبحث السياسة النقدية، خلافاً لقانون النقد والتسليف. اللبنانيون مضطرون إلى التعايش مع فكرة غياب الدولة عن كل القضايا الحياتية والمعيشية، مقابل غرقها في البحث عن جنس الملائكة لإرضاء الجهات المانحة.
فور إعلان نقابة أصحاب محطات الوقود الإضراب لحين إيجاد حل لشراء المحروقات بالليرة، وتوقف المحطات عن بيع المحروقات لحين صدور وثيقة خطية عن الجهات الرسمية المعنية بشراء المحروقات بالليرة اللبنانية، تنبّهت السلطة إلى وجود المشكلة. وكما في المرة السابقة، زار وفد من نقابة مستوردي النفط السرايا الحكومية للقاء الرئيس سعد الحريري، وأعلن بعد انتهاء اللقاء تعليق الإضراب. وقال وزير الإعلام جمال الجراح، باسم أصحاب الشركات المستوردة، إنه «اعتباراً من الغد تتسلم المحطات البنزين، وتعود الأمور إلى طبيعتها مئة في المئة، ولا داعي للخوف». كما أشار إلى أن «ثمة آليات معينة نوقشت اليوم، وقد توصلنا إلى حلول معينة».
لكن إلى متى يمكن أن يتكرر هذا المشهد، ومن يضمن عدم تعريض اللبنانيين لكلّ هذا الذلّ؟ في اللجنة الوزارية المتعلقة بالإصلاحات، طرح رئيس الحكومة فكرة أن تعرض على مجلس الوزراء توصية تقضي باستيراد الدولة للبنزين. الفكرة تقضي بأن يتم الاتفاق مع الكويت على سبيل المثال، لاستيراد الكمية التي يحتاج إليها لبنان سنوياً، والتي تقدّر قيمتها بنحو ملياري دولار، على أن يُصار إلى الدفع سنوياً، بما يؤدي عملياً إلى تأجيل الحاجة إلى الدولار، سنة بعد سنة، بدلاً من فتح الاعتمادات دورياً. كذلك يؤمن هذا الخيار مدخولاً للدولة يحول دون فرض رسوم على المحروقات. لكن هذا الاقتراح الذي يفترض أن يصار إلى تقديمه كتوصية إلى مجلس الوزراء لم يتبلور بشكل واضح، كأن يتم تحديد دور المستوردين عندها أو الموزعين…
في المقابل، تبين بنتيجة الاجتماع بين الحريري والمستوردين أن سبب المشكلة يعود إلى عدم تطبيق الآلية التي أقرها مصرف لبنان بشكل فعّال، ما أدى إلى توقفهم عن بيع البنزين بالليرة اللبنانية. مصادر متابعة أشارت إلى أن الأزمة نتجت من طلب المستوردين اعتماداً بـ 230 مليون دولار لتغطية الاستيراد، بالرغم من أن حاجتهم لم تتجاوز الـ 100 مليون دولار، فيما أشارت مصادر أخرى إلى أن استنفاد المخرون القديم أدى إلى رفع قيمة الاعتماد. وقال أحد أعضاء لجنة الإصلاحات الوزارية لـ«الأخبار» إن شركات المحروقات تبتز الدولة والمواطنين من خلال الإضراب، رغم أن المخزون الموجود حالياً يكفي لثلاثة أسابيع على الأقل. ولهذا السبب، قال الوزير: يجب على الحكومة أن تأخذ خيار تكليف منشآت النفط التابعة لوزارة الطاقة باستيراد البنزين والمازوت بكميات تكفي السوق، ما يؤدي إلى كسر الاحتكار الذي باتت الشركات الخاصة تستخدمه كسيف تهدد به الدولة والسكان.
وأوضح رئيس نقابة أصحاب الشركات المستوردة جورج فياض أنه تم خلال الاجتماع حل مسألة تطبيق الآلية التي كانت تشوبها بعض الإشكالات. أضاف: «بالنسبة إلى مخزوننا، سيؤمّنون لنا مقابله الدفع بالدولار بالسعر الرسمي، لكي يسمحوا لنا البيع بالليرة اللبنانية، اعتباراً من اليوم. والوزارات المعنية بالآلية الجديدة ستقوم بواجبها في هذا الموضوع».
من جهة أخرى، ذكرت مصادر نيابية أن الرئيس نبيه بري سيرجئ موعد الجلسة النيابية التي كانت مقررة يوم الثلاثاء في 15 تشرين الأول 2019 إلى يوم الثلاثاء في 22 منه، لإتاحة الفرصة للحكومة لإنجاز مشروع الموازنة. وعلمت «الأخبار» أن مشروع الموازنة سيُحال على مجلس النواب بالصيغة التي وردت من وزارة المال، ومن دون أي تعديل جدي يُذكر، وأنه لم يعد بحاجة إلى أكثر جلستين لمجلس الوزراء. وقالت المصادر إن أي إصلاحات ستُحال بمشاريع قوانين مستقلة على مجلس النواب. كذلك قرر بري تأجيل الجلسة المقررة لتفسير المادة 95 من الدستور الى يوم 27 تشرين الثاني. ولما كان تردد أن هذا التأجيل قد نتج من تمنّي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، نفت المصادر ذلك، مشيرة إلى «اتفاق حصل بين الرئيسين على تخفيف التشنّجات أو أي أمر من شأنه أن يثير التوتّر في البلد بسبب الظروف الحساسة».