قد يقول البعض إن إثارة ملف القانون المدني للأحوال الشخصية تبدو هامشية وفي غير زمانها ومكانها، في هذا التوقيت بالذات، حيث الأزمات الاجتماعية والاقتصادية تنهش الناس وتهددهم في صميم حياتهم ولقمة عيشهم، في غياب معالجات جذرية حل محلها نهج الترقيع الآني.
لكن أصحاب هذا الاعتقاد حفظوا شيئا وغابت عنهم أشياء، ليس أقلها أن صون كرامة الانسان والمرأة والطفل، وكل الفئات المهمشة في مجتمع نخرته الطائفية حتى العظم، يعد أيضا سبيلا لتأمين حق الناس في حياة كريمة في دولة تحترمهم بوصفهم قيمة إنسانية في ذاتها.
عاد هذا الملف إلى الواجهة بعد مقتل المناضلة في سبيل حقوق المرأة نادين جوني الأسبوع الفائت في حادث سير في منطقة الدامور، أثناء توجهها للمشاركة في تظاهرات المجتمع المدني في وسط بيروت. صحيح أن هذه المرة، اختلف توصيف الجريمة في حق المرأة حيث أن حياتها لم تنته جراء عنف أسري مارسه زوجها في حقها. لكن هذه الحقيقة لا تنفي واقعا آخر، أشد مرارة عاشته نادين في حياتها، وناضلت مدى عمرها لتغيره، معتقدة أنها بذلك تساهم في تطوير لبنان وحياة النساء المعذبات فيه نحو الأفضل.
قضى العنف الأسري على تجربة الزواج التي خاضتها نادين مع شريك حرمها حضانة ابنها الوحيد “كرم”، بفعل حكم من المحكمة الشرعية منح الوالد حق الحضانة بالكامل، لكونه ولي أمر الطفل. هكذا سلخ طفل بريء عن أمه التي لم تترك لها دولة تتحكم الانظمة الطائفية بأحوال الناس الشخصية إلا خيار القتال في سبيل حقها في حضانة طفلها. غير أنها لم تستطع رؤيته وإلقاء النظرة الأخيرة عليه، فيما هو أتى ليشارك في وداع أمه، التي حرم دفء حضنها… قضائيا.
ليست نادين جوني الضحية الوحيدة للعنف الأسري والأحكام المجحفة في حق المرأة في لبنان. كثيرات مثلها وعانين ما عانته ولا يتجرأن على خوض المواجهة، خوفا من مجتمع ظالم لا ينصف النساء الهاربات من حياة زوجية قد لا تكون وردية، وقوانين كثيرة للأحوال الشخصية لا مكان فيها إلا لما تقوله سلطات رجال الدين، المفترض أن يوجهوا الناس نحو الخير والصالح العام، طبقا لتعاليم الله في الكتب المقدسة على اختلافها، وهي بالتأكيد لا تلتقي مع من يحاولون ظلم الرجال والنساء والأطفال باسم سلطة يريدونها “مقدسة” باسم القانون والدين.
قضية نادين جوني ومعركتها في سبيل حضانة طفلها ليست الأولى، وهي بالتأكيد لن تكون الأخيرة، ما دامت الدولة في لبنان تسير على الايقاع الطائفي، وترجح كفته على تلك التي يلتقي فيها المطالبون بقيام دولة مدنية، تسن فيها قوانين تكرس مبدأ المساواة بين الجنسين، واحترام الانسان، كقيمة قائمة في ذاتها بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، علما أن هؤلاء يؤكدون أن قيام الدولة المدنية لا يعني دفع المواطنين في اتجاه الإلحاد أو الابتعاد عن الله، أو المس بسلطات رجال الدين. فالسماح بالزواج المدني على الأراضي اللبنانية، على سبيل المثال لا الحصر لا يمنع أحدا من اتمام زواجه في الكنيسة أو في الجامع، كما هي الحال في مختلف دول العالم المتحضر. وكذلك، فإن الاتيان بقانون مدني للأحوال الشخصية لا يمنع المتخاصمين من أتاحة الفرصة أمام الكهنة أو الشيوخ لبت نزاعاتهم، وهو أمر رائج في الدول المصنفة راقية. كل ما في الأمر أنه آن الأوان لإرساء مبدأ احترام الانسان، ونضاله ومصلحته، وهذا حقه الطبيعي في بلد يجهد لتكريس نفسه بلد الحضارات والحريات والثقاقات والحقوق!