كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
بعد صراع طويل مع الورم الخبيث في القطاع العام، والذي اقتصر علاجه على المسكنات طيلة الفترة الماضية، تفشى المرض أخيراً في كامل جسم الدولة، على أثر انخفاض مضادات الدولار الحيوية، مدخلاً البلد في حالة احتضار أو موت سريري. وبدلاً من أن يدفع هذا المصاب الى معالجة المريض باستئصال الورم الخبيث، فضلوا اتباع نموذج “مراحل الحزن الخمس” لـكيوبلر روس Kübler-Ross) (model, Five Stages of Grief، التي تتمثل أولاها وأخطرها بـ”الانكار”.
اليوم الاثنين الواقع فيه 14 تشرين الاول من العام 2019 لا تستطيع/ين أن تبتاع/ي فيه من لبنان “منقوشة” أو تؤمّن/ي رغيف خبز. فالافران على امتداد الوطن أقفلت أبوابها بعد فشل كل المفاوضات مع المسؤولين لتسهيل دفع ثمن الطحين لأصحاب المطاحن بالليرة اللبنانية.
لماذا البنزين والخبز والدواء؟
الأزمة المستجدة ليست جديدة وقد سبقتها “المحطات” بعلاقتها مع مستوردي النفط، وستلحقها “الصيدليات” بعلاقتها مع مستوردي الأدوية. وإنما لماذا ظهرت المشكلة في البنزين، الخبز والدواء تحديداً، وليس في بقية السلع؟ فلبنان يستورد بنحو 20 مليار دولار سنوياً، سلعاً وخدمات من الخارج، وكلها تتطلب الدفع بالدولار، ومن المفترض أن يكون لكل المستوردين المعاناة نفسها بتأمين العملة الخضراء، التي لم تعد متوفرة بالسعر الرسمي، لا في المصارف ولا خارجها.
الجواب هو أن السلع الثلاث محدد وزنها وقيمتها سلفاً، أقلّه بالنسبة الى الخبز والبنزين، من قبل الدولة، ولا يمكن زيادة ليرة واحدة فوق السعر المقرر للخبز والدواء والمشتقات النفطية. وعليه فإن اضطرار الصيدليات والمخابز والافران لتحويل الليرة اللبنانية الى الدولار على سعر 1625 بدلاً من السعر الرسمي المحدّد منذ العام 1993، يمتص كامل ربحهم أو جزءاً كبيراً منه. وذلك على عكس بقية المستوردات الاخرى، كالملبوسات والمأكولات وقطع غيار السيارات وغيرها الكثير من الحاجيات، التي عمد التجار الى زيادة سعر صرف الدولار على السلعة، من دون “لا حسّ ولا خبر”، وهو ما أدى الى زيادة مختلف الاسعار بنسبة لا تقل عن 10 في المئة على كامل الاراضي اللبنانية.
المعالجات لا تنفع
تؤكد مصادر أصحاب القطاعات الثلاثة أن كل ما يهمهم هو العمل، وأنهم ليسوا هواة إضرابات وعرقلة لأمور الناس “فمن يأكل ويأخذ الدواء ويعبئ الوقود، هم أهلنا أولاً قبل أن يكون أي أحد آخر، انما ما وصل اليه الوضع لم يعد يحتمل”.
نقيب اصحاب الافران كاظم ابراهيم يقول إن “وزير الاقتصاد منصور بطيش يعيش في دنيا أخرى، وأن لا أحد من الدولة يسأل عن الناس ولا عن رغيف الخبز”.
مستشار أصحاب المحطات فادي أبو شقرا يقول: “تراجعنا أكثر من مرة عن الاضراب بعد تدخل رئيس الحكومة شخصياً على خط إمكانية الدفع للشركات المستوردة بالليرة اللبنانية، على أن تحوّل المصارف الليرة الى الدولار للشركات، لكن بعد مرور اسبوع على القرار لم يتم الالتزام بالوعد، وما الاجراء الذي اتخذ بعد تنفيذ الاضراب والذي أدى الى تعليقه إلا حبة “Panadol” مسكن، لن تدوم طويلاً”.
نقيب مستوردي الادوية كريم جبارة يرى أن “الذي يحصل لم يعد مزحة، وهو يتطلب تدخلاً جدياً من المسؤولين لتأمين الدولار بسعر الصرف الرسمي، أو تحديد “كوتا” من الدولار لاستيراد الادوية، كونها تعتبر سلعة استراتيجية، ويجب إعطاؤها الأولوية عن بقية السلع والمنتجات المستوردة من الخارج. إذ بظل سعر الصرف الحالي، تستطيع بعض الشركات الصمود لأشهر معدودة، أما إذا ارتفع معدل الصرف 9 أو 10 نقاط فإن الكثير من الشركات ستغلق أبوابها في غضون أسابيع قليلة”.مرحلة “الانكار”
المسؤولون ما زالوا يستغربون التحركات المتمثلة بالإضرابات والإحتجاجات لأصحاب المصالح، ويرون أنها غير مبررة، “ففي ظلّ إصرار أصحاب الافران على التمسّك بإعلان الاضراب نهار الاثنين (اليوم)، من دون سبب مُقنع، أجدُني مضطّراً الى تأكيد ما هو بديهي ومؤكّد بأنّنا لن نرضى بابتزاز الناس بلُقمة عيشهم”، يقول وزير الاقتصاد والتجارة منصور بطيش، مؤكداً أن “التحجّج بموضوع سعر صرف الدولار سقطَ ايضاً (…) وإصرار أصحاب الافران على الاضراب لا يُمكن فهمُه إلا تحت خانة الابتزاز”. “حالة الإنكار هذه لم تعد تنفع”، يقول عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي عدنان الرمال ويضيف أن “المشكلة هي نتيجة التراجع الاقتصادي الكبير الذي نتج من فرض الكثير من الضرائب والرسوم في الموازنات الاخيرة لتأمين كلفة سلسلة الرتب والرواتب، والذي أيضا ما زالوا ينكرونه. وأن هذا الانكار بالجملة للواقع سيدفع الى عدم تنفيذ الاصلاحات الجدية، وتخطي الدولار سقف الـ 1525 بغية امتصاص القدرة الشرائية للمواطن اللبناني من خلال ارتفاع الاسعار التي فاقت الـ 10 في المئة”.
تمدّد الازمة
الأزمة التي ظهرت عند أصحاب العمل لن تطول لتصيب العمال في القطاع الخاص، حيث بدأت مؤسسات كثيرة باللجوء الى تخفيض ساعات عمل المستخدمين أو تخفيض رواتبهم، وقسم آخر منها لجأ الى الاقفال تحت ضغط الازمة الاقتصادية وتراجع معدلات النمو والناتج الوطني بشكل مخيف. وبالرغم من ذلك ما زالوا يبنون الموازنة على أساس نسبة عجز 7.38 في المئة بالنسبة الى 60 مليار دولار كناتج وطني. بينما قال “البنك الدولي” في آخر تقرير له إن “الناتج الوطني سينكمش بنسبة 0.2 في المئة”، يقول رمال.
الإنكار لا ينحصر بالمسؤولين المستفيدين من هذا الواقع، بل انه يمتد الى شريحة تحاول تسويق كل ما يجري تحت خانة المؤامرة. “فإضراب الافران برأيهم هو لتمرير صفقة طحين فاسدة. وإضراب المحطات سببه وجود فائض يريدون تسويقه”. وطالما هم مقتنعون بهذه الاسباب فإن المرحلة الاخيرة من مراحل “كيوبلر” الخمس المتمثلة بـ”القبول” لن تأتي قريباً ولن نشفى من الداء الخبيث.