كتب النائب محمد خواجه في “الجمهورية”:
إن قانون الانتخاب القائم على النسبية والدائرة الوطنية الموجود، بعهدة اللجان النيابية المشتركة، سبق وتبنّت عناوينه الأساسية أحزاب وشخصيات وقامات وطنية كبرى، وقوى التغيير والحلم بوطن أفضل.
ويسجّل للرئيس نبيه بري وكتلة «التنمية والتحرير»، تجسيد ذاك الحلم باقتراح قانون، ووضعه على طاولة البحث الجدي. ومن المقدّر، أن يتحول مادة مناقشة مفتوحة تحت قبة البرلمان وخارجه، وأن يحاط باستفسارات وتساؤلات، شهدنا بعض إرهاصاتها في مداولات اللجان المشتركة وبرامج إعلامية.
وإسهاماً في النقاش، إنطلاقاً ممّا طرح وما قد يطرح، نورد بدورنا التساؤلات الآتية:
هل يستقيم طرح قانون انتخاب جديد في لحظة تفاقم أزمات معقدة غير مسبوقة، تتصدّرها أزمة اقتصادية مالية، تثقل كاهل اللبنانيين وتقلق حاضرهم ومستقبلهم؟ ولِمَ العجلة، ولدينا المتّسع من الوقت قبل حلول الاستحقاق الانتخابي المقبل؟ وألم يكن الأجدى الإبقاء على القانون الحالي، ولحظ تعديلات عليه، حفاظاً على استقرار التشريع؟ أوليس من الأَولى، حصر الطاقات والجهود، لابتداع مخارج للوضع المأزوم الذي نعيشه؟
وما الجديد الذي يحمله القانون المقترح، وما هي أسبابه ومقاصده؟ وأين أوجه الربط بين قانون كهذا، والتأسيس لإصلاح حقيقي، يضع البلاد على سكة بناء الدولة القادرة العادلة؟
سنحاول إحاطة هذه التساؤلات، من دون زعم امتلاك كل مفاتيح إجاباتها، مع اعتقادنا أنّ النقاش المعمّق بمداه الأوسع، كفيل بتوفير الكثير من الإيضاحات والإجابات، وتعزيز الفهم المشترك لوظيفة قانون الانتخاب ومفاعيله.
أثناء إعداد هذا القانون، قاربنا في كتلة «التنمية والتحرير» مضامينه، بخلفية وطنية صرفة، ومن زاوية أن لا تقتصر وظيفته على إعادة إنتاج السلطة، وتحديد الحجوم النيابية والشعبية فحسب، بل أن يشكّل مفتاحاً لعملية إصلاحية شاملة، باتت البلاد في أمسّ الحاجة إليها. وآثرنا أن يكون التوقيت مبكراً، لإتاحة المجال لأوسع نقاش على المستويات السياسية والبرلمانية والإعلامية والشعبية. وكذلك، التحرّر من ضغوط ضيق الوقت التي حكمت ولادات قوانين الانتخاب السابقة.
وإنّ ما شجّعنا على طرح قانون بديل، هو كمّ الانتقادات التي كيلت للقانون الحالي من معظم الأطراف السياسية، فضلاً عن اقتناعاتنا المبدئية بنظام النسبية والدائرة الوطنية.
وإذا قاربنا مندرجات هذا القانون، لوجدنا الكثير من الأفكار والآليات الإصلاحية التي تحصّن نزاهة العملية الانتخابية، وتعزّز حضور المرأة في حقل التشريع، بتحديد «كوتا» نسائية من عشرين مقعداً. ولحظ التوزع الطائفي والمذهبي والمناطقي القائم، لحين تنفيذ كل مضامين اتفاق الطائف، بما فيها تأسيس مجلس للشيوخ. لكن تبقى النسبية والدائرة الوطنية، هما الركنان الأساسيان في قانون كتلة «التنمية والتحرير».
إنّ إصرارنا على النسبية هاجسه تحقيق عدالة التمثيل، بحيث يُتاح لأي قوة سياسية ذات حيثية شعبية، ولو متواضعة، دخول الندوة النيابية، بما يتناسب وحجمها.
وقد اختبرنا هذا الأمر في الانتخابات الأخيرة، رغم التشوهات التي لحقت بمفهوم النسبية جراء تقسيم الجغرافيا اللبنانية إلى خمس عشرة دائرة. ولو كانت حساباتنا بخلفية مصلحية ضيقة، لتمسّكنا بالقانون الحالي الذي أمّن لنا كتلة وازنة من سبعة عشر نائباً. ومن غير المضمون، الحفاظ على الحضور البرلماني ذاته، مع النسبية واتساع الدائرة الانتخابية.
وبهذا الخصوص، قال الرئيس بري، مراراً، « في النظام النسبي قد نخسر عدداً من النواب…. لكننا سوف نربح لبنان». أما الدائرة الكبرى، فهي بيت القصيد في القانون، كونها تحقّق جملة مقاصد وطنية، أهمها:
– يصبح النائب المنتخب على مستوى الدائرة الوطنية ممثلاً حقيقياً للأمة، وفاقاً للنصّ الدستوري، في حين أنّ النائب اليوم، عملياً، هو ممثل لمنطقة جغرافية محدّدة، ولشريحة معينة من الناخبين، وإن أجاز له الدستور التحدث باسم كل اللبنانيين.
– ليس بخافٍ على أحد حراجة الوضع العام، الذي يعاني من تشابك الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية والبيئية وغيرها، وهذه الأزمات ليست وليدة ساعتها؛ إذ تراكمت عبر عقود زمنية نتيجة سياسات اقتصادية فاشلة وسؤ إدارة وهدر ومحاصصة وفساد مستشرٍ… وهي في جوهرها ذات بعد سياسي، ولا يمكن فصلها عن الأزمة البنيوية للنظام الطائفي، الفاقد لأهلية إيجاد الحلول، والعاجز عن تسيير الشؤون العامة. وبات هذا النظام من أسباب العلة، وولّاد أزمات وتوترات، وحارساً لكل أشكال الفساد. وإذا تبنّينا القانون المقترح، نكون قد خطونا الخطوات الأولى في طريق إدخال إصلاحات جوهرية على بنية النظام القائم.
– إنّ أغلبية القوى السياسية مُصابة بانفصام إزدواجية امتلاك خطابين متناقضين، أحدهما معنيٌ بالبيئة الطائفية الحاضنة، والآخر موجّه الى عموم اللبنانيين. إضافة إلى خطاب فئوي بمعناه المذهبي والمناطقي والحزبي، يطلّ علينا برأسه في زمن التوترات والاستحقاقات.
وقد شهدنا عيّنة منه، عشية الانتخابات النيابية الأخيرة، حيث استحضر بعض المرشحين مفردات من قاموس الحرب الأهلية. ونعتقد أنّ اعتماد لبنان دائرة واحدة، يخفّف كثيراً من أعراض هذه الحالة المرضية، إذ تُلزم القوى السياسية ومرشحوها على الإرتقاء بخطابهم، طمعاً بكسب أصوات الناخبين من كل الطوائف والمناطق. وهذا يساعد، مع إمرار الوقت، على تطوير رؤى تلك القوى وبناها التنظيمية وخطابها الوطني، ويساهم بالتدرّج، بتشكّل هوية لبنانية جامعة، نفتقدها في النظام الطائفي.
– من الطبيعي سعي النائب لتحصيل مشاريع وخدمات إنمائية لدائرته الانتخابية لإرضاء ناخبيه، وتحسين حظوظه في الاستحقاقات المقبلة. هذا السلوك مبرر في وطن يفتقد إلى التخطيط ودراسة جدوى المشاريع، وبرمجة أولوياتها وفاقاً لحاجات المناطق.
وسيتغير هذا السلوك تلقائياً، متى أصبح النائب ممثلاً فعلياً لكل اللبنانيين؛ فتأتي مقارباته لمفهوم الإنماء متوازنةً، مع إعطاء الأفضلية للمناطق الأكثر حرماناً وحاجة، تحقيقاً لمبدأ المساواة بين أبناء الوطن الواحد.
– لقد تلازمت عمليات الرشى وشراء أصوات الناخبين، مع كل الاستحقاقات النيابية منذ تأسيس الكيان. وكلما صغرت الدائرة الانتخابية، تضاعفت وتيرة الرشى، وازدادت فرص نجاح المرشح المتمول مع شراء بضعة آلاف من الأصوات.
وبالتأكيد، ستختفي هذه الظاهرة المعيبة، باعتماد الدائرة الوطنية الكبرى؛ فمن المستحيل على أي مرشح، مهما بلغت أرقام ثروته، شراء عشرات، بل مئات آلاف الأصوات للفوز بمقعد نيابي.
في المحصلة، ما تقدّم، يعبّرعن فهمنا لفلسفة قانون النسبية والدائرة الوطنية، والغايات المأمولة منه، وجميعها تصبّ في منحى تحديث النظام السياسي وتطوير الحياة العامة، وصولاً إلى الدولة المدنية، دولة القانون والحريات والمواطنة والعدالة الاجتماعية.