كتبت هيام القصيفي في صحيفة “الاخبار”:
رغم أن المعارضة الحقيقية للعهد لا تتمثل في فريق سياسي موحد الجهود، إلا أن الأصوات المعارضة لا تزال ترتفع وإن متفرقة. الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية المنضويان إلى الحكومة لا يكفّان عن انتقاده والتيار الوطني الحر. الشخصيات المعارضة في تيار المستقبل، كالرئيس فؤاد السنيورة وبعض الأصوات النيابية السابقة، تعبّر بخجل داخل الحلقات الضيقة. الكتائب على حضورها الضئيل في الحياة النيابية، تحاول قدر المستطاع التعبير عن معارضتها، والشخصيات المستقلة المعارضة يقلّ عددها، ولا يزال الأكثر بروزا بينها النائب السابق فارس سعيد.
إعلان رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل عزمه على زيارة دمشق، استنفر جميع هؤلاء، رغم أن معارضتهم لن تقدم ولن تؤخر لاعتبارات معروفة، منها ما يتعلق بلقائه الأخير الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وموقفه في الجامعة العربية، ومن ثم خطاب «الحدت» على بعد كيلومترات من «حارة حريك»، وفي ذكرى 13 تشرين الاول تحديداً وارتباطها بسوريا، رغم محاولات بعض العونيين تحميل كل معارضيهم مسؤولية حدث 13 تشرين دون سوريا. لكن زيارة دمشق ليست وحدها الخطوة اللافتة في كلام باسيل، بل الكلام عن قلب الطاولة والتلويح بخطوات تضع «الآخرين» في ملعب الاتهام مع بدء نصف الولاية الثانية. فباسيل وضع بذلك خطوته الثانية على طريق الرئاسة بعد كلامه في افتتاح المقر العام للتيار، لأن «الزيارة هي وجه من وجوه الانقلاب الذي هدّد به، بعدما حسم خياره بالذهاب اليها مرشحاً رئاسياً، بعدما كانت الأجواء تتحدث عن زيارة رئيس الجمهورية لها»، بحسب معارضين للعهد والتيار.
لا تحمل الزيارة مفاجأة بالمعنى العملي، ولا حتى بالمفهوم «السياسي المسيحي». فقد سبق أن زارها مع العماد ميشال عون، وافتتحا موسم الحج الى براد، في مرحلة حساسة أيضاً. وزارها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، من دون أن ننسى النزعة المشرقية الجديدة وما تمثله كنائس سوريا فيها لدى التيار والكلام عن علاقات الاقليات في المنطقة. وخلال العهد الحالي، زارها وزراء في الحكومة ومقرّبون من العهد، وسبق لباسيل أن التقى نظيره السوري وليد المعلم في نيويورك. إلا أنها، بحسب القوات اللبنانية، «خطوة مستغربة وتزيد الملفات الخلافية، في وقت تزداد فيه الازمة الاقتصادية حدة وتحتاج الى تهدئة الأجواء والعمل معاً لمعالجة هذا التدهور». وهي النظرة نفسها التي يعبّر عنا الحزب التقدمي الاشتراكي، بعد كلام رئيسه وليد جنبلاط، «لأنها تزيد الانقسام والشرخ، إذ لا يستطيع وزير وحده أن يقرر سياسة الحكومة ويتفرد بقرار بهذا الحجم». يريد الاشتراكي، بخلاف ما يتجه اليه الحريري، أن تكون الحكومة مسؤولة مجتمعة، لأن هذه الخطوة تحتاج الى توافق داخلي. فنحن لا نختلف فقط على السياسات الداخلية، بل على الاستراتيجيات، ولا يستطيع باسيل التفرّد بسياسة لبنان الخارجية». والاشتراكي الذي يخوض معركة كسر عظم مع التيار والعهد منذ حادثة قبرشمون الى «معركة الحريات» الأخيرة، يرفض «التطبيع المجاني مع النظام السوري، خصوصاً أن زيارة عون وباسيل لسوريا سابقاً لم تحقق أي إيجابية في موضوع المفقودين، فكيف ستحقق إيجابيات الآن؟».
يضع باسيل قضية النازحين كأولوية في زيارته، لكن سبق لعون أن زار موسكو لهذا السبب، ولم يحقق أي نتائج، «فالعلاقة المباشرة مع دمشق والنظام السوري لن تحقق نتائج عملية، إلا إذا سبق الزيارة التعهّد بآلية واضحة لتنظيم العودة، كتحديد مدة زمنية، شهر مثلاً، لتنظيم عودة النازحين الى بلادهم، بالاتفاق مع سوريا»، بحسب القوات، «فنحن لا نغلق الباب أمام الزيارة إذا حققت هدفها، لأن المهم هو عودة النازحين. لكن حزب الله وأمينه العام الذي له علاقات مباشرة مع سوريا لم يستطع أن يحقق عودتهم، فهل ستحققها زيارة باسيل؟». وبرأي القوات، إن «التطبيع مع سوريا مرفوض من دون جوّ عربيّ مؤات وانتظام العلاقة في اتجاه تنظيم مسبق لآلية العودة».
يذهب باسيل الى دمشق، ويدافع عنها في الجامعة العربية، بعد لقاء نصر الله، وأيضاً بعد فشل كل المحاولات لترتيب أوضاعه في واشنطن، وازدياد الكلام في دوائر مقرّبة من الإدارة الأميركية عن احتمال تعرّضه (أو بعض المقرّبين منه) لعقوبات، الى حدّ ردّه بنفسه على هذا الكلام حين قال إن على واشنطن أن تتعامل معه على أنه وزير للخارجية. يلعب باسيل في هذا التوقيت «صولد» في ذهابه بالاتجاه المعاكس، لأن الزيارة التي تفتح باب ترشيحه للرئاسة من بوابة دمشق، ترفع أيضاً سقف تحديه الأميركيين، في توقيت يراه ملائماً بحسب معارضيه، «لأن واشنطن تخلت عن الأكراد في سوريا، وتخلت عن دعم حلفائها في الخليج، ومحور الممانعة يحقق أرباحاً صافية، وهذا ما يجعل باسيل يستفيد من التوقيت لدخول دمشق مرشحاً رئاسياً في وجه خصومه، ومنهم حلفاء دمشق، كرئيس تيار المردة سليمان فرنجية». يقول النائب السابق فارس سعيد: «ثمة جوّ يتّهم عون وباسيل بالانتهازية من أجل وصول الأول الى الرئاسة وإعداد الثاني لها. الواقع أن كليهما على «قناعة تامة» بأن ما يقومان به ورقة رابحة، أولاً لجهة إنهاء الطائف لاعتقادهما أنه انقلاب على الامتيازات المارونية، وثانياً لأنهما راهنا على خيار رابح في المنطقة، بدأ يحقق أرباحاً، بخلاف ما أنتج مثلاً انتماء الرئيس كميل شمعون الى حلف بغداد. وهما على اقتناع تام بهذا المحور بالنتائج الذي يحققها. الخطأ أنهما يبنيان سياستهما على نهائيات في منطقة تنام على أمر وتفيق على آخر».
بين الزيارة وتهديد باسيل بقلب الطاولة، ثمة مساحة لتلمس ردود فعل جهات ثلاث: واشنطن التي يزروها وفد مصرفي كبير، وبحسب سعيد «سلاحها الوحيد للرد سيكون اقتصادياً وزيادة في العقوبات التي ستنعكس سلباً على اللبنانيين»؛ القوى السياسية التي يتّهمها باسيل بالوقوف ضد العهد. صحيح أنه هذه المرة لم يتناول القوات في خطابه، لكن الجو العام العوني يضع القوات والاشتراكي وحتى حركة أمل من ضمنهم. يقول الاشتراكي إن «كلام باسيل يكشف نوايا مبيّتة تتناقض مع النظام اللبناني. ونوايا التعطيل ليست غريبة على التيار، لكن هذا البلد قائم على التوازنات ولا أحد يمكن أن يقلب الطاولة على أحد». لكن الاشتراكي كما القوات يبقيان بلا غطاء سياسي ــ حكومي بسبب موقف الحريري الملتبس.
ردّ الفعل الثالث هو ردّ فعل الشارع السنّي. فرئيس الحكومة سعد الحريري غطّى زيارة باسيل مباشرة وغير مباشرة. وهو بات محرجاً ومقيّداً بحكومة يريدها أن تؤمن له غطاءً دولياً لمنع استفراده سعودياً، وتحفظ له مكانة ما داخلياً. ومعارضو باسيل على ثقة بأن الحريري مهما أُحرج فلن يخرج من الحكومة وسيغطي زيارة دمشق، وقد يغطّي أيضاً ما تسفر عنه. المشكلة تكمن في ردّ فعل الشارع السنّي الذي يفلت من يد الحريري، بتزكية أيضاً من معارضيه داخل تياره. لا يستطيع الحريري أن يعتبر الزيارة فردية، ويغضّ الطرف عن التلويح بقلب الطاولة مع بداية تشرين الثاني، لأنه هو من بين المقصودين بالكلام، بعدما تبيّن أيضاً أنه ثنائي اللغة بين الحزب والتيار. ولا يستطيع بعد الآن أن يتجاوز مصافحة السفير السوري كما يفعل كل مرة في احتفالات عيد الاستقلال. فإما ان ينتظم في المحور الذي كرّسه لقاء الساعات السبع، وإما أن يتخذ قرار الخروج من الحكومة. وهذا رابع المستحيلات.