يشهد لبنان تحولا سياسيا يقوده وزير الخارجية جبران باسيل باتجاه فرض تطبيع العلاقات مع النظام السوري، وهو ما يطرح تساؤلا حول من يحكم لبنان.
ويقول متابعون للوضع اللبناني إن إعلان باسيل “طالع عا سوريا” يشكل تحديا لباقي الفرقاء السياسيين، لاسيما أولئك الممثلين داخل الحكومة والذين يعارضون بالمطلق هذه العودة.
وسبق أن مهد قادة تحالف 8 آذار لهذا التحول سواء عبر التصريحات، أو من خلال الزيارات التي قام بها وزراء يتبعون رئيس مجلس النواب نبيه بري وحزب الله والزعيم الشمالي المسيحي سليمان فرنجية.
ومثل إعلان رئيس الجمهورية ميشال عون من على منبر الأمم المتحدة، أثناء انعقاد جمعيتها العامة، الشهر الماضي، عن عزم بلاده التواصل مع دمشق للتفاهم حول مسألة إعادة النازحين السوريين، موقفا رسميا من قبل أعلى موقع سياسي في لبنان للمجتمع الدولي عن توجه لاختراق الستاتيكو، لاسيما الدولي والعربي، في قضية تعليق التطبيع مع دمشق بانتظار اكتمال عملية سياسية ترعاها الأمم المتحدة.
واعتبرت مصادر دبلوماسية عربية أن باسيل تقصّد في اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير في القاهرة، الذي انعقد لمناقشة الحملة العسكرية التركية شمال شرق سوريا، إلقاء خطاب عالي السقف، وسط معلومات أن جهات عربية حاولت ثنيه عن إلقاء ذلك الخطاب والاكتفاء بإيداعه لدى الأمانة العامة للجامعة العربية.
ورأت المصادر أن مطالبة الوزير اللبناني الدول العربية بإعادة سوريا إلى عضوية الجامعة العربية، قُرئت بصفتها مطالعة محابية لنظام دمشق وتأتي خارج أي سياق إقليمي أو دولي في هذا الصدد، خصوصا أن النظام السياسي العربي ما زال منقسماً حول هذه المسألة.
ونقل عن أجواء اجتماع الوزراء العرب أن نصيحة باسيل بـ“عدم انتظار أضواء خضراء من الخارج” لمباشرة التطبيع مع دمشق، أثارت استياء لدى المجتمعين، الذين رأوا في النص المكتوب الذي قرأه باسيل أمام نظرائه العرب، ما يشبه الخطاب الإيراني الذي لطالما ادعى مواجهة العواصم الكبرى واتهام دول عربية بالانصياع لها.
واستغربت أوساط سياسية لبنانية اتخاذ رئيس “التيّار الوطني الحر” مواقفه تلك في يوم ذكرى الثالث عشر من أكتوبر 1990 عندما اجتاح الجيش السوري قصر بعبدا، وهو مقرّ رئاسة الجمهورية اللبنانية، وقتل عددا كبيرا من الجنود اللبنانيين وقتذاك، في حين فرّ العماد ميشال عون الذي كان يقيم في القصر إلى منزل السفير الفرنسي رينيه آلا.
وكان عون يقيم وقتذاك في قصر بعبدا بصفة كونه رئيسا لحكومة مؤقتة تقتصر مهمّتها على الإشراف على انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا للرئيس أمين الجميّل الذي انتهت ولايته في سبتمبر 1988.
ورأى سياسي لبناني في اختيار وزير الخارجية ذكرى الاجتياح السوري لقصر بعبدا كي يدعو إلى عودة سوريا إلى “الحاضنة العربية” بمثابة “اعتذار للقتيل من القاتل” وذلك بعد مضيّ تسعة وعشرين عاما على تنفيذ جريمته. لكنّ هذا السياسي برّر تصرّفات وزير الخارجية اللبنانية برغبته في الوصول إلى رئاسة الجمهورية من منطلق أّنّه بات يعرف أن ذلك ليس ممكنا من دون موافقة “حزب الله” وتنفيذ رغباته.
هل ينفذ باسيل ما كان عون قد أعلنه في نيويورك
ووفق دبلوماسي لبناني آخر، لا يجب تحليل السلوك الذي ينتهجه باسيل الذي هدد الأحد بقلب الطاولة على الحكومة، كما الهمة المفاجئة التي يبديها للاندفاع نحو دمشق، دون الأخذ بعين الاعتبار اللقاء الذي جمعه قبل أيام بالأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، والذي استغرق 7 ساعات، وفق ما أشاع الطرفان، على نحو أرادا من خلاله بعث رسائل داخلية وخارجية حول صلابة التحالف بين الحزب والتيار العوني وتمسك الحزب، خصوصا، بدعم الرئيس عون، واستمراره في تأكيد ثقته بباسيل بصفته واجهة لبنان الخارجية المدافعة عن “المقاومة” وسلاحها.
والواضح أن باسيل ينفذ أمر عمليات قد يكون الاجتماع مع نصرالله أحد منصاته. وتتوقع أوساط سياسية لبنانية أن ينفذ باسيل ما كان عون قد أعلنه في نيويورك وما كان أعلنه هو شخصياً الأحد من عزم على زيارة العاصمة السورية.
ويكشف البيان الذي صدر عن رئيس الحكومة سعد الحريري عقب عودة باسيل من القاهرة، والذي نأى فيه عن موقف باسيل داخل الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب، مذكراً بسياسة النأي بالنفس التي تنتهجها الدولة والمنصوص عليها في البيان الوزاري لحكومته، عن استمرار التصدع داخل طبقة الحكم في لبنان حول هذا الملف.
وكان باسيل قد صرح عقب الضجة التي أثارها في مقر الجامعة العربية “سأذهب إلى سوريا كي يعود الشعب السوري إلى بلده كما عاد جيشه”. بالمقابل صدر الاثنين عن المكتب الإعلامي للحريري بيان وضح فيه “إذا أراد رئيس التيار الوطني الحر زيارة سوريا لمناقشة إعادة النازحين فهذا شأنه، المهم النتيجة، فلا يجعل النظام السوري من الزيارة سبباً لعودته إلى لبنان، لأننا لا نثق بنواياه من عودة النازحين (…) وإذا تحققت العودة فسنكون أول المرحبين”، مضيفا “البلد لا تنقصه سجالات جديدة، والهمّ الأساسي عندي اليوم كيف نوقف الأزمة الاقتصادية. وإذا لم يحصل ذلك، ستنقلب الطاولة وحدها على رؤوس الجميع”.
وتقول أوساط قريبة من الحريري أن من مصلحة لبنان عدم الدخول في الاستقطابات التي تقسم المنطقة والتي تظهر تجلياتها الكبرى في مسألة مقاربة علاقة العالم مع دمشق. وتضيف هذه الأوساط أن للرئيس الحريري موقفاً معارضاً للنظام في سوريا، لكنه لن يعادي أي إجماع عربي لإعادة العلاقات مع دمشق طالما أن ذلك من مصلحة لبنان واللبنانيين. وعليه فإنه لن يقبل بتحولات سياسية رسمية لبنانية في هذا الملف تأتي على نقيض من التفاهمات العربية العامة.
وتلفت هذه الأوساط إلى أن الحريري ما فتئ يكرر في الآونة الأخيرة بأن حزب الله ليس مشكلة لبنانية بل إقليمية دولية، وأنه في هذا السياق يعتبر أن العلاقة بين لبنان ونظام دمشق هي أيضاً مشكلة إقليمية دولية.
وتخلص مصادر دبلوماسية في بيروت إلى أن تحالف حزب الله والتيار العوني يحاول استباق أجواء دولية إقليمية تؤثر مباشرة على وضع النظام السوري والعلاقة معه.
وتوضح المصادر أن الاتفاق الذي أبرم بين الأكراد في شمال شرق سوريا والنظام السوري برعاية روسية، يؤشر إلى تحولات في مقاربة التسوية في سوريا تتشارك بها عواصم كبرى. كما أن الجلبة المثارة حول جهود رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان لمباشرة حوار بين السعودية وإيران، والزيارة التي يقوم بها الرئيس الروسي إلى السعودية ستتداعى مباشرة على الشأن السوري، على نحو لا مصلحة لبيروت وفق ذلك من التموضع المنفرد والتغريد خارج الجو العام.