كتب محمد شقير في صحيفة “الشرق الأوسط”:
كأن لبنان لا تكفيه الحرائق السياسية التي أشعلها رئيس «التيار الوطني الحر» وزير الخارجية جبران باسيل في خطابه الذي ألقاه لمناسبة مرور 29 عاماً على إخراج العماد ميشال عون من القصر الجمهوري في بعبدا، ليفاجأ بالحرائق الطبيعية التي اندلعت على غفلة والتهمت نيرانها مساحات خضراء في عدد من أقضية جبل لبنان واضطرت الحكومة إلى الاستعانة بمروحيات قبرصية لمحاصرتها والسيطرة عليها ومنعها من التمدد إلى مناطق أخرى.
لكن السيطرة على الحرائق السياسية لا تزال تواجه صعوبات، بعدما ترتبت عليها تداعيات من خلال ردود الفعل التي استهدفت باسيل على ما ورد في خطابه من دون سابق إنذار أو بالأحرى لم يكن مبرراً، وهذا ما دفع بنائب رئيس الحكومة غسان حاصباني وبوزيري «اللقاء الديمقراطي» أكرم شهيّب ووائل أبو فاعور إلى الرد عليه بشدة غير مسبوقة في مستهل جلسة مجلس الوزراء التي عُقدت مساء أول من أمس في «السراي الكبيرة» برئاسة رئيس الحكومة سعد الحريري، من دون أن يحرّك باسيل ساكناً للرد على الحملات التي استهدفته.
وعلمت «الشرق الأوسط» من مصادر وزارية أن باسيل لاذ بالصمت ومعه فريقه الوزاري استجابة لرغبة الرئيس الحريري الذي نجح في استيعاب التأزّم ومحاصرته، وصولاً إلى لملمة الوضع بعد أن كان سجّل اعتراضه على معظم ما ورد على لسان وزير الخارجية من مواقف غلب عليها التجنّي في محاولة منه لرمي المسؤولية على الذين شملهم بهجومه «الصاروخي» استباقاً للدفاع عن رئيس الجمهورية ميشال عون مع اقتراب ولايته الرئاسية من سنتها الرابعة.
فباسيل، بحسب المصادر، أراد الدفاع عن «العهد القوي» في وجه الانتقادات التي لا تعفيه من مسؤوليته حيال تفاقم الأزمة الاقتصادية، وهذا ما أشار إليه بوضوح الوزير أبو فاعور. كما أن باسيل أراد تحميل مسؤولية تردّي الأوضاع الاقتصادية للسياسات التي اتبعت سابقاً أسوة، كما تقول المصادر الوزارية، بما كان يفعله رئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود، رغم أن وزارة الطاقة كادت تكون بمثابة وكالة حصرية باسم «التيار الوطني» الذي تسلمها منذ 11 عاماً من دون أن يؤمّن الحلول لملف الكهرباء.
ولفتت المصادر إلى أن باسيل أراد عن سابق تصوّر وتصميم استهداف خصومه في محاولة مكشوفة ليصرف الأنظار عن المواقف التي أعلنت في اللقاء الذي عقده «قدامى الجيش» في حضور النائب العميد المتقاعد شامل روكز، وفيه إشارة واضحة إلى «الذين استغلوا تضحيات العسكريين وتسلقوا على جثثهم وحصلوا على مناصب لا يستحقونها وأحاطوا أنفسهم بالمتزلّفين وأصحاب المال وهم اليوم يعيثون في الأرض فساداً ويتبجّحون بإنجازات وهمية».
لذلك جاء الهجوم على باسيل من «أهل البيت»، وبدلاً من أن يرد على «قدامى الجيش» راح يصوّب قصفه السياسي على خصومه التقليديين من دون أن يستثني تيار «المستقبل» الذي التزم بالتسوية الرئاسية من جانب واحد ويحاول «التيار الوطني» التعامل معه على أنه الحلقة الأضعف في هذه التسوية ويحاول من حين لآخر الالتفاف على اتفاق «الطائف» للنيل من صلاحيات رئيس الحكومة.
وعليه، فإن جلسة مجلس الوزراء عُقدت، كما تقول المصادر الوزارية «في أجواء مكهربة» لا تعود إلى ما قاله باسيل فحسب، لأن هناك من كان له بالمرصاد، وإنما إلى «لجوء البعض إلى ابتزاز الحريري لدى استكمال البحث في مشروع الموازنة للعام 2020، وتحديداً من خلال تبادلهم المزايدات الشعبوية وتراجعهم عن بعض البنود التي كانوا وافقوا عليها وأدرجوها في صلب أوراقهم الإصلاحية التي لا تزال تناقشها اللجنة الوزارية للإصلاحات المالية والإدارية».
وأكدت المصادر نفسها أن من تراجع عن موافقته على بعض البنود لخفض العجز في الموازنة للعام المقبل الذي يُفترض أن ينسحب على خدمة الدين العام، كان سبق له أن أعلن موافقته عليها في الإعلام، بدلاً من أن يترجمها إلى أفعال في مشروع الموازنة. وكشفت أن «حزب الله» من خلال وزرائه في الحكومة لم ينفك عن مطالبته بزيادة الضرائب على المصارف بذريعة أنه يتوجب عليها التضحية أسوة بالآخرين.
وبكلام آخر، فإن وزراء «حزب الله» يتعاطون مع المصارف لدى بحث مجلس الوزراء في زيادة الواردات المالية لخفض العجز على أنها «البقرة الحلوب» وبات مطلوباً منها الاستجابة لزيادة الضرائب على أرباحها، مع أن النظام المصرفي يمر حالياً في ظروف دقيقة للغاية بسبب الركود الاقتصادي الذي يسيطر على البلد من جهة، ولجوء بعض أصحاب الرساميل إلى تحويل مدخراتهم إلى الخارج من جهة أخرى.
فالقطاع المصرفي في حاجة ماسة لتوفير الحماية له، لأن المساس به سيرتد سلباً على الاستقرار النقدي في البلد لكن لـ«حزب الله» رأي آخر، ما يدفع بعدد من الوزراء إلى السؤال عما إذا كانت هناك خطة لاستهدافه بذريعة أنه يلتزم بالعقوبات الأميركية المفروضة على الحزب.
إلا أن المراوحة التي سادت جلسة مجلس الوزراء، خصوصاً لدى انتقال الوزراء لاستكمال البحث في مشروع الموازنة للعام 2020 دفعت برئيس الحكومة إلى مغادرة الجلسة احتجاجاً على الأجواء غير المشجّعة التي سادتها، مع أنه أبدى حرصه الشديد على اتباع سياسة تدوير الزوايا لأن ما يهمه هو الوصول إلى موازنة استثنائية وغير عادية.
وتردد أن مغادرة رئيس الحكومة للجلسة كانت وراء رفعها مع بداية البحث في مشروع الموازنة، وبالتالي فإنه سيبادر إلى التواصل مع أبرز المكونات في الحكومة تحضيراً للجلسة التي تُعقد غداً الخميس وسيكون له الموقف الذي قد يفاجئ الجميع في حال أن النقاش لم يسلك طريقه باتجاه إنتاج موازنة فيها من الإنجازات التي يحملها معه إلى اجتماع الهيئة الاستراتيجية لمتابعة تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر» المقرر في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
ويبقى السؤال عما إذا كان مجلس الوزراء سيتمكّن من وضع اللمسات الأخيرة على مشروع الموازنة الذي يجب أن يتلازم مع إقرار رزمة من الإصلاحات المالية والإدارية يتسلح بها الحريري في اجتماعه الباريسي لإطلاق الضوء الأخضر لتنفيذ مجموعة من المشاريع لا مشكلة في تأمين تمويلها.