بدت بيروت أمس، عيْناً على «زنار النار» الذي لفّ مناطق عدّة ولا سيما الشوف ورَسَم مشهداً مُفْجِعاً لـ«لبنان يحترق» في «نكبةٍ طبيعية» غير مسبوقة، وعيْناً أخرى على «حرائق» سياسية بعضها «اشتعل» وبعضها الآخَر يلوح «دخانه» من مواقف على طريقة «البلاغ رقم واحد» تشي بأن شيئاً ما يُعدّ للواقع اللبناني من خلْف ظهْر الوضع المالي الدقيق الذي يسابِق محاولات إقامة «شبكة أمان» إصلاحية تقي البلادَ الانهيار الكبير.
وفيما كانت «الرادارات» المحلية تحاول التقاط مَغازي انتقال «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» (حزب الرئيس ميشال عون) علناً إلى «مَقاعد القيادة» لمرحلةِ الدفْع نحو التطبيع الرسمي مع النظام السوري وتوجيه دفّة الخيارات ضمن مشروع موازنة 2020 بما «يخْدم» عنوان إحياء التنسيق المباشر مع دمشق من خارج المظلة العربية – الدولية و«أجندةَ» التصدي للعقوبات الأميركية، دَهَم اللوحةَ السياسية – المالية الداكنة «يوم جهنّمي» اجتاحَ معه نحو 150 حريقاً بلداتٍ في الجبل والشمال والجنوب في «ثلاثاء أسود» ترك معه «إعصار النار» آثاراً مدمّرة تركّزت في المشرف والدامور والدبية والناعمة (ساحل الشوف) وبعورتا (عاليه).
ومن قلْب عمليات الكرّ والفرّ بين فرق الإطفاء والنيران «المتمرّدة»، وعلى وقع ما يشبه «حال الطوارئ» الحكومية في ملاقاة «الكارثة الوطنية»، أطلّت ملامح «تَمَدُّد» بقعة زيت المناخ السياسي المحتقن الذي باغتَ لبنان في الأيام الأخيرة إلى «وليمة النار» المفتوحة، وسط ارتيابٍ من أن تكون الحرائق «الموجِعة» اندلعت بـ «عودِ ثقاب» سياسي ولا سيما في الشوف بعدما استعيدت أجواء الصراع الحامي بين الزعيم الدرزي وليد جنبلاط و«التيار الحر».
ولم يكن عابِراً غمْزُ محسوبين على جنبلاط من قناة أن الحرائق في الشوف مفتعلةٌ وسط إيحاءات بأنها ربما تضمر أهدافاً «أمنية» تمهّد لاستباحة الجبل عبر «الأرض المحروقة»، في مقابل كلام نواب في «التيار الحر» عن رصْد سيارة تولى مَن فيها إشعال حريق في جرد عاليه (النائب سيزار ابي خليل) وصولاً إلى طرْح النائب ماريو عون علامات استفهام كبرى حول «كيف أن الحرائق لا تطول إلا مناطق مسيحية».
ولم يكن هوْلُ «المصيبةِ اللاهبة» كفيلاً بإخماد الاستقطابات السياسية الحادة التي «خَرَجَ جمرُها من تحت الرماد» على خلفيةِ إعلان رئيس «التيار الوطني الحر» وزير الخارجية جبران باسيل عزْمَه على زيارة دمشق وتهديده بقلْب الطاولة داخلياً بعدما كان دعا أمام الجامعة العربية لاستعادةِ سورية مقعدها فيها، وهي الاندفاعةُ التي «صبّتْ الزيتَ على النارِ» في علاقة حزبه بـ «التقدمي» الذي بدا وكأنه «حرق المراكب» مع العهد حين طالب برحيله (خلال تظاهرة التقدمي عصر الاثنين).
وإذ كانت الأنظارُ شاخصةً على كيفيةِ الحدِّ من أضرارِ ملامح انفجارِ الودّ الملغوم بين جنبلاط وفريق عون واحتواء تَشظيات تَفَرُّد باسيل في الدفْع نحو إحياء العلاقة الرسمية مع النظام السوري وسط أسئلةٍ حول مدى قدرة رئيس الحكومة سعد الحريري على المضيّ في حمْلِ «كرة النار» وتدوير الزوايا ولاسيما بعدما أصاب التوترُ السياسي العالي مجلسَ الوزراء في جلسته الاثنين، استوقف أوساطاً مطّلعة أن وهجَ تصعيدِ «التيار الحر» الذي لَفَحَ مناقشاتِ الموازنة في ظل ما اعتُبر «عملية ارتداد» على بعض البنود التي كان تم الاتفاق عليها لتعزيز الإيرادات يأتي من ضمن مناخٍ جديدٍ يرتسم في أفق المشهد الداخلي بِتَناغُمٍ مع «حزب الله» الذي بدأ أمينه العام السيد حسن نصر الله يدير مجموعة من اللقاءات التي تركّز على الشقين السياسي والمالي – الاقتصادي من الوضع اللبناني.
وبعد لقاء الثماني ساعات ليل الخميس الماضي بين نصر الله وباسيل، برز الكشف عن اجتماعٍ عُقد أول من أمس واستمرّ نحو 6 ساعات بين الأمين العام لـ «حزب الله» ورئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية وتركّز على جدول أعمالٍ يعدّه الحزب للمرحلة المقبلة وعبّر عنه تأكيد الطرفين «موقفهما المعروف بضرورة عودة العلاقات بين لبنان وسورية الى وضعها الطبيعي، والحوار المباشر والرسمي مع الحكومة السورية، خصوصاً في مجالين مهمين هما الاستفادة من الفرصة الكبيرة التي يتيحها إعادة افتتاح معبر البوكمال لتعزيز الصادرات اللبنانية عبر سورية إلى العراق والعمل المشترك مع الحكومة السورية في مسألة عودة النازحين السوريين إلى بلادهم وتخفيف الأعباء الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة على لبنان».
كما شدّد نصر الله وفرنجية في معرض مناقشة الواقع المالي على «ضرورة العمل على زيادة الإيرادات وخفض النفقات، آخذين في الاعتبار المطالب المشروعة لذوي الدخل المحدود ورفض زيادة الضرائب المباشرة وعدم المس بالرواتب والأجور والحسومات التقاعدية والعمل على دعوة الحكومة الى إيلاء الإيرادات الناجمة عن الأملاك البحرية اهتماماً جاداً، والتشديد على مكافحة الهدر والفساد».
وفي حين تركتْ مقاربة «حزب الله» لخريطة الطريق للخروج من المأزق المالي – الاقتصادي والتي برزت مؤشراتها في إحباط محاولة الزيادة المتدرجة للضريبة على القيمة المضافة (على غير الكماليات) خلال جلسة الحكومة (أول من أمس) علامات استفهام حول كيفية إخراج الموازنة من عنق الزجاجة بما يلبي توقعات المجتمع الدولي المتحفّز لمسارٍ إصلاحي وكابِح للإنفاق يمهّد للإفراج عن مخصصات مؤتمر «سيدر» وغيره من خطوط الدعم الخارجي، توقفت الأوساط نفسها عند إصرار «حزب الله» (بلسان الشيخ نعيم قاسم) على اعتبار الأزمة المالية نتيجة «مشكلة سياسية» سببها «الانصياع للموقف الأميركي الإسرائيلي الذي يضغط على لبنان لعدم السماح للحكومة بأن تجري مباحثات مع الحكومة السورية»، ومحدّداً الجزء الثاني من المشكلة على أنه «عند حيتان المال (المصارف) وعدم أخذ نسب أعلى على الفوائد التي يحصل عليها المودعون أكانوا مصارف أو غير مصارف، وعدم إعطاء قرض للدولة بفوائد منخفضة جداً»، من دون أن يُسقِط خيار الشارع في مقاربة الملف المالي الاقتصادي.
وعلى وقع هذا الصخب، كان لافتاً اللقاء الذي عُقد بين الحريري ورئيس البرلمان نبيه بري عشية جلسة لمجلس الوزراء اليوم وسط تأكيد أوساط بري أن البحث تَرَكَّزَ على سبل «تذليل العقبات لإنجاز الموازنة وإحالتها على مجلس النواب في المواعيد الدستورية»، مشيرة الى «أنّ البلد الذي يحترق بنيران الأزمات في حاجة الى خطوات تطفئ هذه النيران وليس إشاعة أجواء تؤجج اشتعالها».