كتب محمد نزال في “الاخبار”:
كان هاتف يوسف الملّاح مقفلاً طوال يوم أمس. كان الرجل داخل أحراج المشرف والدبيّة والجوار، يُطفئ الحرائق، قبل أن يُصاب في قدمه. تابع عمله إلى أن أصبح عاجزاً عن الوقوف. لم يكن ممكناً أمس التواصل مع أشهر متطوّع في الدفاع المدني بتاريخ الجمهوريّة. عرفنا أحواله مِن زميل له. أتراه كان أمس، وهو بين النيران، يشتم في سرّه الحكومة، أو بالأحرى الحكومات المتعاقبة، التي رفضت تثبيت متطوّعي الدفاع المدني وتجهيزهم بما يلزم؟ أتراه فكّر بأن يشمت بهم، ثم انتبه، وهو بين الشجر، أنّه بذلك يكون شامتاً بنفسه؟ قبل أكثر مِن خمس سنوات، وقف الملّاح في وسط بيروت، وباسم زملائه المتطوّعين، مناشداً الحكومة: «يا عمّي، كلّ الناس بتحسب حساب للكوارث، يا عمي نحن فتش علينا وين في حريق منكون، يا عمي إذا بتشقّوا صدرنا بتلاقوه كلّه كربون، بتخلص قنينة الهوا وما معنا غيرها منقوم مننزل، منقول معليش، بدنا نطفي بدنا نخلّص بدنا نشيل». لم يبقَ مسؤول حكومي، طوال السنوات الماضية، إلا وعد هؤلاء الشبّان بالتثبيت.
كان يُقدّم الأمر كاّنه منّة أو «حسنة»… في حين أنّه حاجة وجوديّة لأيّ دولة. هؤلاء لو تَركوا عملهم لأصبحنا، ببساطة، بلا دفاع مدني، وهذا يعني، تقريباً، عدم وجود مَن يُطفئ أي حريق. لا يوجد دولة بلا دفاع مدني. يجوز هذا في المزرعة. هل يعلم المتابعون أن هؤلاء الذين كانوا يكافحون النيران، أمس، بإمكانات لوجستيّة ضئيلة، إنّما هم متطوّعون، موعودون كذباً بالتثبيت منذ سنوات، وأن بعضهم ما زال يلتحق بزملائه، عند كلّ كارثة، فيما لا يتقاضى في المقابل أيّ ليرة. بعضهم لا يملك «رينجر» لينتعله في عمله. هكذا، إلى هذا الحدّ.
كثيرون مِن السياسيين تذكروا الأمر يوم أمس. فقط أمس. هذا النائب إبراهيم كنعان يقول: «نطالب بتأمين اعتمادات استثنائية لتوفير الإمكانات اللازمة لمواجهة كوارث من هذا النوع، واعتبارها أولوية في المرحلة المقبلة، ونرفض أيّ تخفيض لميزانية الدفاع المدني في موازنة عام 2020». لم ينس كنعان أن يدعو إلى «تثبيت عناصر الدفاع المدني في أقرب فرصة من دون تأخير». بدوره النائب هادي أبو الحسن أطلق تصريحاً ناريّاً، مِن وحي مشاهد النيران، قائلاً: «بئس هذا الزمان الذي أصبح فيه الحق استجداءً، انصروا وأنصفوا الدفاع المدني». فريق النائب الأخير مشارك في الحكومة، مثل النائب الأول أيضاً، وها هو يتوجّه إلى «الله أعلم مَن» بأن ينصفوا الدفاع المدني. النائب فادي علامة «غرّد» في هذا الشأن أيضاً، موجّهاً التحية إلى عناصر الدفاع المدني «الذين يعملون على إخماد الحرائق وإنقاذ المدنيين باللحم الحي». لم ينس علامة كذلك أن يتمنى الآتي: «عسى أن يُترجم ما شهدناه مِن تحرك رسمي وتضامن شعبي بتثبيت وتجهيز عناصر الدفاع المدني». فريق نائبنا الأخير هو ضمن الحكومة أيضاً. إنّها الكائنات الفضائيّة التي تكره عناصر الدفاع المدني، هل مِن تفسير آخر؟
خالد طالب، ابن الشمال المتطوّع والأب لأطفال، يقول: «هلق فاق الضمير على التثبيت؟ طلع الشعر على لساننا. عموماً يلّا يحلّوها، نحن ناطرين إمضاء مِن وزيرة الداخليّة، يلّا خبّرناهم وين عالقة القصّة، حلّوها. وزير المال قال المصاري موجودين، بس الظاهر بدهم يكونوا مختلفين على المحاصصة الطائفيّة، هيدي هيي». عند سؤال خالد، الذي يشارك في كلّ اعتصامات التثبيت منذ سنوات، عمّا يعانيه الدفاع المدني مِن نواقص، يقول: «لازم تسأل شو مش ناقصو، يا زلمي ما عنا بدلات كفاية، رناجر (أحذية) ما عنا كفاية، جاي تحكيني عن طيارات وما طيارات… اليوم كنت عم طفّي الحرايق بنربيش ماي، بتعرف شو يعني نربيش؟ بتسألني عن الآليات؟ ما بدّي أكفر، بس رح خبرك عن آلية مكسّرة عنا بالمنطقة، منضلّ نصلّح فيها وعمرها 500 سنة، مندفشها دفش لتمشي، بدّك كفّي؟». لا، شكراً.
الحرائق تحصل في كلّ العالم. لسنا، هنا في لبنان، استثناء بين الأمم. حتّى «الاستفاقة» بعد الكارثة هي مسألة مألوفة بين البشر، ظاهرة نفسيّة طبيعيّة، ومتوقّعة بين غير المختصّين… لكن أن «ينام» مَن يتقاضى راتبه مِن جيوبنا، ووظيفته (واختصاصه) ألا ينام، فهذا لئيم إلى حد يستحق أن نضعه مع يوسف الملّاح، في غرفة واحدة، مقيّداً لمدّة ثلاث سنوات مثلاً.