رغم أن لبنان أَفْلَتَ من «بركان النار» الذي أَوْشَكَ أن «يفترش» كل ما بقي من مساحاته الخضر وأن «يفترس» مناطق سكنية «بمَن فيها»، فإنه لم يخْرج من «الصدمة» المتعدّدة البُعد التي أحدثَها نحو 150 حريقاً حوّلت جبالاً وتلالاً وأودية وشوارع بلداتٍ إلى «بساطٍ من رماد» وأطلقتْ «جرس إنذارٍ» للسلطة حيال مَخاطر استمرارِ الرهان على «النجاة بالصدفة» من كوارث طبيعية يحتاج التصدي لها إلى استراتيجياتٍ متكاملة، أو من انهياراتٍ مالية – اقتصادية باتت «مكوّناتُها» جاهزةً وتزداد الخشية من حصولها في ظلّ مناخات سياسية غير مُريحة تشي بـ«رياحٍ انقلابية» على مساراتٍ وربما… معادلات.
وتقاسَمتْ المشهد في بيروت أمس، لوحتان داكِنتان: الأولى «رسمتْها» النيرانُ التي التهمتْ مساحاتٍ شاسعةً في الشوف وبعض عاليه والمتن وكسروان والشمال والتي استمرّت نهاراً عملياتُ مكافحةِ «جيوبها» واحتواء بعض الحرائق الجديدة ومنْع تَمدُّدها وسط بدء مسح الأضرار ومحاولة تحديد المسؤوليات وأسباب «الكارثة الوطنية»، والثانية أطلّتْ من تطوراتٍ متسارعة على الجبهتين السياسية والمالية – الاقتصادية اعتُبرت مؤشراً إلى «شيء ما» يتمّ التحضير له داخلياً، بخلفيات إقليمية، وبدفْع من «حزب الله» وذلك على قاعدة أن… «لا دخان من دون نار».
وإذ لم تسترح «العدساتُ» أمس من رصْد الآثار المدمّرة لـ«طوفان النار» ولا سيما في المشرف والدامور والدبية (الشوف) وبتاتر وبعورته ودقون وكفرمتى (عاليه)، وسط تقديراتٍ أوليةٍ رسمية بأن الحرائق أدّتْ إلى تَضَرُّر 10 منازل و13 سيّارة (11 في الدامور و2 في النّاعمة) في موازاة ما نُقل عن بعض مَن عملوا ميدانياً مع فرق الإطفاء أنّهم عايَنوا أكثر من 10 فيلّات تضرّر غالبيتها من الخارج في المشرف، و3 منازل في حارة النّاعمة و2 في النّاعمة، لم تهدأ «حركة الإخماد» في أكثر من نقطة بينها في حمانا (المتن الأعلى) حيث اندلع حريق جرى احتواؤه قبل بلوغه المناطق السكنية، فيما استمرت عمليات «تبريد الأرض» في البقع الرئيسية التي «اجتاحتْها» النيران (الاثنين والثلاثاء) قبل أن تساعد أمطار الثلاثاء على الحدّ من «تفجُّرها».
واقتحمتْ هذه «الفاجعة» التي خفف من وطأتها أن خسائرها البشرية، اقتصرت على مقتل مواطن (سليم أبو مجاهد) بعدما شارك في إخماد حريق في بتاتر، مقرّ البرلمان حيث كانت مداولاتٌ في اللجان ركّزتْ على المطالبةِ بتحقيقاتٍ في أسباب عجز الدولة عن مواكبة هذه «النكبة» كما ينبغي في ظل نقص التجهيزات لفرق الإنقاذ والإطفاء وغياب أدوات إدارة الكوارث ناهيك عن فضيحة ترْك 3 طوافات سيكورسكي سبق أن اشتراها لبنان (عبر جمْع تبرعات داخلية) العام 2009 دون صيانة ما جعلها «خارج الخدمة»، وصولاً إلى تحديد ما إذا كانت «غزوة النار» مفتعلة أم وليدة ظروف مناخية.
وفي وقتٍ كانت تتفاعل تصريحاتٌ لنوابٍ في «التيار الوطني الحر» (حزب الرئيس ميشال عون)، ولا سيما تلك التي لمحت إلى «استهدافٍ طائفي» لمناطق مسيحية وذلك من فوق «الهبّة الإنسانية» التي طبعتْ «الثلاثاء الأسود» وبدا معها اللبنانيون قلباً واحداً «محْترقاً» على بلدهم ومنخرطاً في عمليات الإطفاء ومساعدة «المنكوبين» حتى استحقوا ثناء سفارات أجنبية على «شجاعتهم»، لم «تنطفئ» المخاوف من مآلاتِ إشاراتٍ سياسية خرقتْ المشهد في الأيام الأخيرة وبدت مُدجَّجة بـ«القطب المخفية».
وفي هذا الإطار، وفيما اتجهت الأنظار إلى جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت عصر أمس، باعتبار أنها ستشكّل اختباراً فعلياً لما إذا كانت رحلة إقرار مشروع موازنة 2020 تمهيداً لإحالته على البرلمان مطلع الأسبوع المقبل «فُخِّخت» سياسياً أم لا، فإن ما يشبه «عمى ألوان» ساد غالبية الأوساط حيال ما يُعِدّ له «حزب الله» بعد إجراء أمينه العام السيد حسن نصر الله لقاءين بالغيْ الدلالات لم يفصل بينهما إلا أياماً قليلة مع كل من حليفيْه المسيحييْن رئيس «التيار الوطني الحر» وزير الخارجية جبران باسيل ثم رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية.
وتَرافق هذان اللقاءان مع ارتسام خريطة طريق واضحة بدا معها «حزب الله» وكأنه وضع جدول أعمال المرحلة المقبلة في لبنان وعلى طريقة «أنتم ناقِشوا وأنا أقرر»، وذلك على مستويين متداخلين: الأول سياسي وعنوانه فتْح طريق التطبيع الرسمي وعلى مستويات عالية مع النظام السوري. والثاني مالي – اقتصادي عَكَس منحى لتحميل المصارف وزر مسار خفْض العجز وزيادة الإيرادات من ضمن ما اعتُبر «أول غيث» ضغط متدحرج عليها لـ «ليّ ذراعها» في سياق المواجهة «من الداخل» اللبناني لمسار العقوبات الأميركية على الحزب، وهو ما تَرافَقَ مع تحديد «لاءات» صارت بحُكْم «الفيتو» على غالبية الخيارات الضريبة التي كان يُراد تضمينها الموازنة او الإصلاحات الموازية لها و«الشَرْطية» للاستفادة من مخصصات مؤتمر «سيدر» وتفادي السقوط المالي.
وفي حين لم تُقرأ اندفاعة الوزير باسيل بعد لقائه نصر الله سواء في الجامعة العربية حيث طالب باستعادة سورية مقعدها أو في خطابه في الحدَث حيث أعلن انه سيزور دمشق مهدداً بقلْب الطاولة داخلياً إلا في إطار التناغم مع مقتضيات «المرحلة الجديدة»، لم تتوانَ دوائر سياسية عن اعتبار أن تراجُعه عن بعض التفاهمات مع رئيس الحكومة سعد الحريري حول إجراءات ضريبية (زيادة الـ tva) هي في الإطار نفسه وسط ترقُّب إذا كان لقاء الرجلين (الحريري – باسيل) أمس قبل جلسة الحكومة سيعيد العمل بهذه التفاهمات.
ولم تُخْفِ هذه الدوائر توجُّسها الكبير من المرحلة المقبلة في ظلّ قراءاتٍ بدأت تبْرز لخفايا اللقاءات التي أطلقها نصر الله شخصياً والتي غالباً ما كان يؤشّر انعقادها لـ «تغيير» مرتقب في الأداء الداخلي، متوقّفة عند أن هذه القراءات تراوح بين ربْطٍ غير مفهومِ المنطلقات بالانتخابات الرئاسية (موعدها الدستوري بعد 3 سنوات)، وبين أسئلة حول إذا كان الأمر في سياق التمهيد لـ«انتهاء صلاحية» مرحلة قيادة «حزب الله» للواقع اللبناني من الخلف والانتقال الى «التحكم والسيطرة» المعلَنة في ملاقاة التحولات في المنطقة وما تستبطنه من فتْح طاولة المقايضات التي ترتكز على موازين القوى في ساحات… الأخذ والردّ.