كتبت لينا فخر الدين في صحيفة “الجمهورية”:
يصرّ المحتجّون في وسط بيروت على عدم خروجهم من الشوارع حتى إسقاط هذه السلطة، من كبيرها إلى صغيرها. التهديد بالخوف من المجهول، ما عاد نافعاً. لا شيء يملكه هؤلاء حتى يخسروه. والأهم من كلّ ذلك، أنهم استطاعوا إخراج تحرّكهم من الاصطفافات الطائفيّة والحزبيّة، حاملين العلم اللبناني ومُرددين: «كلّن، يعني كلّن».
لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل ليل أمس الأوّل. طفح كيل الشعب، ولا شيء قادراً على إسكاته للتراجع عن مطالبه في رحيل هذه السلطة العاجزة والفاسدة. جدار الخوف تحطّم. المواطنون يأتون سيراً على الأقدام من كلّ بيروت للمشاركة في تظاهرة وسط بيروت. كلمة رئيس الحكومة سعد الحريري، التي كان من المنتظر أن تسحب المتظاهرين من الساحات، لم تؤدّ مبتغاها.
صحيح أنه لا خطّة واضحة للمتظاهرين، ولكن هؤلاء يصرّون على أنّ المجهول أفضل من الواقع الذي يعيشونه، ليشدّدوا على أنّ استقالة الحريري وحده ليست هي الهدف، وإنّما استقالة جميع المسؤولين من مناصبهم، إذ انّهم يريدون سلطة تعطيهم بعضاً من حقوقهم، وليس الاكتفاء بتقاسم المغانم ورَمي الضرائب على كاهلهم.
مدينة أشباح
شوارع بيروت كمدينة أشباح مُقفرة. قلّة هي المحال التجاريّة التي قرّرت فتح أبوابها. مستوعبات النفايات الفارغة رُميَت عند مداخل الشوارع الفرعيّة لتسدّ مداخلها، هذا ما يحصل في الحمرا وسبيرز وفردان وكليمنصو وبشارة الخوري والأونيسكو والمنارة… حتى صارت بيروت مقطّعة الأوصال يصعب التوجّه بالسيارة بين شارع وآخر.
«حكّام الشوارع» اليوم هم راكبو الدرّاجات النارية. هؤلاء يَجوبون بيروت في مسيرات تَمرّ بين الفينة والأخرى. بعضهم يكتفي بالصراخ: «ثورة… ثورة» لتحفيز المواطنين على النزول إلى الشارع، فيما البعض الآخر يقطع الطرقات حاملاً الإطارات المشتعلة وعبوات البنزين. يُضرمون النّار بالإطارات. وما ان يطمئنّوا الى أنّ الطريق أصبحت غير سالكة، حتى نَراهم ينتقلون إلى شارع آخر. بعض هؤلاء الملثّمين يساعدون المارّة وحتّى آليّات الجيش على عبور المناطق المقفلة، وينصحون المواطنين بالتوجّه إلى شوارع أخرى حفاظاً على سلامتهم.
تدور السيّارات في أرضها محاولة إيجاد شارع مفتوح، ولكن عبثاً… الأمر يتعدّى مستوعبات النفايات، إذ إنّ الثورة مرّت في كلّ شارع من شوارع بيروت. زجاجٌ مَنثور في الطرقات. مَبانٍ تحطّمت واجهاتها. البعض اقتلَع الأشجار ورماها أرضاً. هذا ما يخشى منه بعض الذين لم يشاركوا في التظاهرة، على قِلّتهم، يخشون أن تحصل اشتباكات وأعمال عنف.
«يفشخ» المارة على النّار الموقدة. الجميع هنا يضع كمّامة يغطي فيها فمه وأنفه. فأعمدة النيران تتصاعد من كلّ منطقةٍ في بيروت. هنا رائحة النار تطغى على كلّ ما عداها.
ومع ذلك، لم يفكّر المواطنون كثيراً في التوجّه إلى وسط العاصمة. لا شيء يَعوقهم عن الاحتجاج. مواطنون من كل الطبقات الاجتماعيّة. يُمكن ملاحظة الأمر بسهولة: حقائب وثياب من ماركات عالميّة. الجيّد في الأمر أنّ الاحتجاج تعدّى مشاركة الناس الفقيرة التي لا تجد عملاً أو لقمة عيشها. من يسمع المتظاهرين يعلم أنّ كثيرين هنا لديهم خطاب مُسيّس. لا يتحدّث هؤلاء بلغة الشارع، بل يطالبون بمطالب من يعرف بخبايا الأمور. يتحدّثون عن الضرائب والإصلاح والفساد والخطط الاقتصاديّة – الاجتماعيّة…
الناس هنا بالآلاف. يبدو واضحاً اختلافهم الطبقي والطائفي والعمري… ومع ذلك إنّ مطالبهم واحدة. عائلات بأكملها كانت تتوجّه إلى الساحات. بعض الآباء لم يتوانوا عن حَمل صغارهم للمشاركة في هذه التظاهرة. بعض هؤلاء الصغار كانوا في عرباتهم. وكما الصغار، كذلك العجّز. لم تمنعهم سنّهم من مشاركة الشباب في تظاهراتهم. يقول أحدهم: «منذ أن كنّا صغاراً ونحن نُراهن على الوقت، كبرنا وبقيَ الوضع على ما هو عليه… فماذا ننتظر؟!».
الجميع يُعبّر عن نفسه بطريقته. بعضهم ارتدى أقنعة، وبعضهم افترَش ساحة الشهداء في «استراحة محارب» مبتعداً عن الضوضاء. أمّا البعض الآخر فجلس في باحة مسجد محمد الأمين يُشاهد ما يحصل، قبل أن ينضَم إليهم عدد من رجال الدين من الطوائف كافّة بلباسهم الديني. محتجّون يقتربون من الجدار الأمني الموجود بالقرب من رياض الصّلح، مُطلقين الشتائم بحق المسؤولين. بالقرب من تمثال رياض الصّلح، تُردّد مجموعة مطالبها: «علمانيّة… علمانيّة». البعض تسلّق أعمدة الكهرباء وأسطح المباني الفارغة رافعاً راية النّصر. لا تنظيم، ولا جهة تدعو النّاس للتجمّع في نقطة واحدة، إذ انّ التجمّعات امتدّت من شارع المصارف مروراً بساحتي الشهداء ورياض الصلح، وصولاً إلى مبنى «النهار» وحتى الشوارع الخلفيّة لوسط بيروت.
لا رقم محدداً للمشاركين، على اعتبار أنّ بعضهم يأتي لبعض الوقت ليعود إلى منزله قبل أن ينضَمّ مشاركون آخرون. بعض المتظاهرين الذين يرفضون الخروج من الساحة، نسيَ أن يأكل. رفاقهم يذهبون ليؤمنوا لهم بعض ما يمكن التهامه سريعاً. أماني، واحدةٌ من هؤلاء. تذهب إلى منزلها القريب من وسط بيروت لتعدّ سندويشات اللبنة والجبنة والزعتر وتعود لتوزّعها على «الرفاق». مَن يسكن بالقرب من هنا يتوجّه إلى منزله ليأخذ قسطاً من الراحة، ويضرب موعداً للانضمام من جديد إلى التظاهرة بعد قليل ليبقى حتّى الفجر.
ولكن بالطبع العدد بالآلاف. من بقي في السّاحة منذ ليل أمس الأوّل يُشير إلى أنّ الأعداد إلى ارتفاع، وليس العكس.
كثيرون هنا يؤكّدون أنّها المرة الأولى التي يتوجّهون فيها إلى الشارع. هم ضاقوا ذرعاً بفساد السلطة واعتبارهم قطيعاً يغضّون الطرف عن وقاحة المسؤولين. يعتبر هؤلاء أنّ التحرّكات التي حصلت مُسبقاً كانت تحت إدارة مجموعات مدنيّة لا يثقون بها، أمّا اليوم، فالأمر مختلف: هذا التحرّك هو عفوي.
«التحرّك بيكَبِّر القلب»… هذا ما يردّد كثيرون. فالعلم واحد والمطالب واحدة. لا شعارات طائفيّة أو حزبيّة تُسمع. وحده العلم اللبناني مرفوع في الساحات، وشعار «كلّن يعني كلّن» هو حقيقي، إذ يبدو أنّ كثيرين خرجوا من اصطفافاتهم الطائفيّة والحزبيّة. هذا يتجلّى في قول كثيرين أنّهم انتخبوا زعماء طوائفهم، من دون أن يقدّموا لهم دولة خدمات وحقوق…
هذا ما يُريح اللاحزبيين. فقد سقطت «التابوهات» من الإتيان على ذِكر بعض الأحزاب والشخصيّات. المتظاهرون في الكولا أتوا من طريق الجديدة، ليؤكّد بعضهم أنّ زمن الاقتراع بـ»زَي ما هيّي» وَلّى إلى غير رجعة. هؤلاء يهاجمون سعد الحريري «على عَينك يا تاجر». أبناء طريق الجديدة لم يكونوا حالة فريدة، بل الحركة الاحتجاجيّة في بشارة الخوري – راس النبع أظهَرت رفض القواعد الشعبيّة لـ»حزب الله» وحركة «أمل» ممارساتهم داخل السّلطة. بعضهم وَجّه الشتائم في وجه زعمائه، فيما البعض الآخر اكتفى بوصفهم بـ»الشيطان الأخرس».
ولكن «حزب الله»، وفق ما يقوله البعض، يحاول أن يَركب الموجة كما باقي الأحزاب التي تعتبر نفسها أنّها تُعارض الحكم. فهي تُشارك في الحكومة وقراراتها، وفي الوقت نفسه تدعو مناصريها إلى مُلاقاة المتظاهرين في الشوارع!
وعلى هذا المنوال، يحاول «حزب الله» أن يتصرّف. ولذلك، قام بتوزيع لائحة من المطالب الاقتصاديّة كي يركّز المتظاهرون على تردادها وعدم الخروج من الشّارع قبل تحقيقها.
«سلميّة… سلميّة»
وإذا كان البعض يردّد شعار «سلميّة… سلميّة»، فإنّ الكثير من المتظاهرين يخاف من تحويل هذه التظاهرة في الأيّام المُقبلة إلى حركات غوغائيّة لتخويفهم ومنعهم من النزول إلى الشوارع. يتوجّه بعضهم إلى الصفوف الأماميّة مُحاولين إخراج بعض المُندَسّين الذين يشتمون القوى الأمنيّة ويرمونها بالعبوات الفارغة.
في المقابل، كانت واضحة حكمة القوى الأمنية في عدم التعرّض للمتظاهرين، قبل أن تنفلت الأمور من عقالها ليلاً عندما اندلع حريق في أحد المباني قيد الإنشاء في رياض الصلح، لتبدأ عمليّات الكر والفر بين القوى الأمنيّة وبعض المتظاهرين وإلقاء القنابل المسيّلة للدموع وإطلاق الرصاص المطاطيّ.
إنّ حجم العنف الذي تمّ استخدامه في وجه المتظاهرين يشير إلى اتخاذ القرار السياسي لإنهاء هذه التظاهرة. فهل تنجح السلطة في إحباط التحّرك ضدّها؟