كتبت غادة حلاوي في “نداء الوطن”:
كل السياسيين غابوا عن السمع. حبسوا أنفاسهم في انتظار ما سيقوله رئيس الحكومة سعد الحريري. هالهم مشهد الشارع على امتداده، من الجنوب الى بيروت فطرابلس وكسروان وجبيل وغيرها من المدن، هي المرة الاولى التي تشهد ساحات لبنان على اختلافها تحركاً لا طائفياً ولا مسيّساً، والمرة الاولى التي انتظر كل حزب من يعفيه من المسؤولية ويمجد بهذا الزعيم او ذاك وخاب امله. هال السياسيين ما رأوه وما سمعوه، سقطت رمزية الكثيرين وقدسيتهم. إنهالوا عليهم بالشتائم واتهموهم بما هم عليه من صفات ولم يعفوا احداً او يعذروه. ليسقط الجميع ولتتغير الحكومة ويحاكم الناهبون والسارقون. فماذا بعد؟ ومن بيده ان يحاسب؟ وكيف لأزمة بهذا العمق وعلى هذا النحو من الخطورة ان تعالج بين ليلة وضحاها؟
بالامس فُتحت ابواب لبنان على المجهول. غابت تحليلات السياسيين وتوقعاتهم لمشهد توقعوه قبل غيرهم ولم يعالجوا اسبابه. قبل فترة وجيزة ذهب احد الوزراء السابقين الى مرجع نيابي يبلغه ما تناهى الى مسامعه من معلومات عن السيناريو المعد للبنان، لاقى كلامه الاستغراب لكن ما سمعه حصل، لبنان مقبل على الفوضى، الفوضى لا تجرّ الا الفوضى.
لكن لا نية للحكومة بالاستقالة لان الفراغ ازمة بحد ذاتها… بالأمس كنا أمام فصيلين سياسيين، واحد يريد الحكومة ويحرص على بقائها ومن بينهم “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” ورئيس مجلس النواب نبيه بري و”المردة”، وآخر حاول جهده لاقناع رئيس الحكومة سعد الحريري بالاستقالة وقوامه رئيس “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع و”حزب الكتائب” و”الحزب الاشتراكي” الذي يتحدث عن محاولات لتطويقه واخراجه من الحكومة ومن هنا كان نداؤه للحريري بالاستقالة. وبهذا المعنى ميّز الاشتراكيون تحركهم بصب جام غضبهم على العهد وسلاح “حزب الله” مستثنين الحريري من انتقاداتهم.
توسعت رقعة الازمة، وصار يلزمها “كبش فدا” يسحب الفتيل من الشارع. كل طرف يقذف بكرة النار باتجاه الطرف الآخر، وبينما المركب يغرق حاول كل من “الاشتراكي” و”القوات” القفز متنصلين من حكومة كانوا شركاء فيها.
حتى السادسة والنصف مساءً انتظر الجميع خطاب سعد الحريري وكيف سيتفاعل معه الشارع. لم يكن بوسع أي حزب أو تيار في لحظة الاستحقاق ان يحدد البوصلة ومسار الامور. عاش سعد الحريري أسوأ لحظاته، وقف على قاب قوسين او ادنى من الاستقالة. اراد ان ينطق بها على الملأ مصارحاً الناس بخفايا الأسباب والعقبات التي تعترض عمل حكومته. في قرارة نفسه كان الاقرب الى الاستقالة. حسبها بدقة، في مثل هذه الاجواء وحيث يتجه البلد نحو المجهول، من شأن الاستقالة ان تحتسب لصالحه شعبياً وتزيد من رصيده السياسي وتنقذه من ورطة رئاسة حكومة عاجزة نتيجة الانقسام الداخلي. لكن سعد الحريري مرة أخرى ليس ملك قراره الشخصي لأنّ أي قرار كهذا من شأنه أن ينقل البلاد الى مرحلة المجهول. طوال ساعات ليل امس الأول وطيلة نهار أمس تلقى الحريري عشرات الاتصالات التي تمنت عليه التريث في الاستقالة. كان من بين المتصلين سفراء دول اميركا وفرنسا وبريطانيا والمانيا نبهوه الى محاذير الاستقالة.
بالموازاة انشغل رئيسا الجمهورية ميشال عون ومجلس النواب نبيه بري في معالجة امر استقالة الحريري، لم يكن “حزب الله” الحريص على استمرار الحكومة بعيداً وقد اشتغلت وساطته على خط الضاحية وبيت الوسط. اتصل المعاون السياسي للامين العام الحاج حسين الخليل مراراً قبل ان يقفل الحريري خطه مستاءً مما آلت اليه الامور، فأرسل “الحزب” موفداً شخصياً الى الحريري يطلب منه عدم الاستقالة وإمهال الجميع للحل فترة وجيزة. وبالفعل عدل الحريري موقفه عن الاستقالة وقد أطل مصارحاً الناس بوجود نية لديه بالاستقالة لولا انه فضل اعطاء فرصة أخيرة للعمل على معالجة الازمة وسيبني على الشيء مقتضاه.
الجميع بات عاجزاً عن قراءة حركة الشارع أو التنبؤ بما ستحمله الساعات المقبلة. طرحت علامات استفهام حول ما اذا كان ثمة من يقف خلف الجماهير التي تجمعت محتجة في الشارع، كثرت المخاوف، وهل يمكن للجميع ان ينزل دفعة واحدة في كل المناطق. اليد على القلب.
الناس موجوعة وتعاني ولكن هناك مجموعات لها مصالح سياسية اخرى، وكأن ثمة من يريد تصفية حسابات معينة؟ ليكون السؤال هل من مصلحة الاميركي ان ينتقل لبنان الى مثل هذه الفوضى؟ تقود التحليلات الى الاجابة بسلبية على السؤال وهنا يمكن ان نتحدث عن تقاطع في الموقف حيال الحكومة بين “حزب الله” والاميركي من ناحية حرصهما على استمرار الحكومة.
لا يريد “حزب الله” اسقاط الحكومة ولا يجد مصلحة له بذلك، لا سيما في الفترة الراهنة التي تشهد تحولات كبيرة اقليمية ودولية. صحيح انه سبق وهدد بالنزول الى الشارع وتوعد امينه العام باللجوء الى هذا الخيار ساعة يشتد الخناق على الناس، لكن لـ “الحزب” مخاوفه وهواجسه وحساباته التي لا توافق الراغبين باسقاط الحكومة لاعتبارات عدة.
يتجنب “حزب الله” دخول البلد في المجهول خاصة وان الخيارات البديلة غير متوافرة ولا هي سهلة في الوقت الراهن لا سيما مع الشروع في مناقشة موازنة العام 2020 والاصلاحات المتصلة بها، عدا عن مسألة في غاية الاهمية وهي ان اي حكومة مستقبلية قد لا تضمن لـ”حزب الله” تمثيلاً مباشراً كما هو الحال عليه اليوم، خصوصاً مع التشدد الاميركي والعقوبات المفروضة عليه.
المؤشر سلبي لما ستحمله الايام المقبلة مع ضيق الخيارات امام الحكومة، فإما الإصلاحات بسرعة البرق أو الانهيار.
ماذا بعد استمهال الحريري للناس في الشارع؟ هل ستؤمن الساعات الـ72 نقل البلد إلى بر الأمان أم أنّ الأوضاع مقبلة على ما هو أصعب؟ سؤال تجيب عنه مصادر سياسية معنية بالقول إن “حزب الله” يعمل على إعداد مخرج للأزمة ينقذ الحكومة ورئيسها معاً، ومن بين المقترحات الاستعانة بالجيش للحل، عملاً بمعادلة “جيش شعب ومقاومة”، بحيث يأخذ الجيش على عاتقه أمام المحتجين حل الأزمة خلال 5 أيام تكون خلالها الحكومة أقرت الموازنة من دون فرض أي ضريبة إضافية على الناس.