كتب خيرالله خيرالله في صحيفة العرب اللندنية:
في ظلّ الثورة الشعبية الحقيقية التي يشهدها لبنان، من الضروري عدم إضاعة البوصلة السياسية من جهة، والاعتراف بأنّ المأزق اللبناني عميق إلى درجة تجعل من الصعب الكلام عن مخارج من جهة أخرى. هذا عائد أساسا إلى أنّه لا يستطيع أيّ بلد في العالم العيش والنمو والتطور في ظل شرعيتين؛ شرعية الدولة وشرعية الدويلة التي صارت أكبر من الدولة.
هناك شباب لبناني نزل إلى الشارع. شباب يبحث عن مستقبله في بلد صار يحكمه “المرشد” الذي بات يعتبر نفسه فوق كل الرؤساء والرئاسات وكلّ المؤسسات. هذا “المرشد” هو حسن نصرالله الأمين العام لميليشيا مذهبية مسلّحة تشكّل جزءا لا يتجزّأ من “الحرس الثوري” الإيراني. هذا هو السبب الحقيقي للمأزق اللبناني الذي جعل الشعب كلّه ينتفض على النظام الجديد الذي فرضه “حزب الله” على لبنان واللبنانيين. اسم هذا النظام هو “العهد القوي” الذي يؤكد نصرالله بلهجة تهديدية في خطابه الأخير أن لا أحد يستطيع إسقاطه. بالنسبة إلى نصرالله، إن هذا العهد هو عهد “حزب الله”.
في النهاية، إن “حزب الله” يدافع عن النظام الذي أقامه في لبنان، والذي حوّل البلد تابعا لإيران بطريقة أو بأخرى. لو لم يكن الأمر كذلك، لما كانت هناك تلك الانتفاضة العارمة التي شملت كلّ منطقة من المناطق اللبنانية، بما في ذلك الجنوب اللبناني حيث بات المواطن الشيعي العادي يعترض على سياسات الثنائي الشيعي، أي “حزب الله” وحركة “أمل”. لا يستطيع “حزب الله”، الذي احتكر مع “أمل” كلّ المقاعد الشيعية في مجلس النوّاب اللبناني وكلّ الوزراء الشيعة في الحكومة، نفي مسؤوليته عمّا آلت إليه حركة “أمل” التي يتهمّها الناس بأنّها تحوّلت إلى رمز من رموز الفساد في البلد.
لم يعد لبنان في الوضع الراهن، وفي ظلّ “العهد القوي” الذي أسّس له “حزب الله”، غير مأوى للحوثيين في اليمن ومن على شاكلتهم من الذين أخذوا على عاتقهم الإساءة إلى كلّ دولة من دول الخليج العربي
ما كان لحركة “أمل” بلوغ الوضع الذي بلغته من دون “حزب الله”. ما كان لرئيس مجلس النواب نبيه برّي، رئيس حركة “أمل”، البقاء كل هذه السنوات في موقعه من دون “حزب الله”. من هذا المنطلق، على اللبنانيين الذين تظاهروا، أو الذين بقوا في بيوتهم، ألا يضحكوا على أنفسهم. في أساس الدخول في النفق المظلم الذي دخله لبنان، ممارسات “حزب الله” الذي رفض في أيّ وقت أن يكون حزبا لبنانيا في خدمة لبنان واللبنانيين. ليست لدى الحزب من مهمّة سوى خدمة إيران ومصالحها حتّى لو كان الثمن حصول انهيار لبناني، بكل ما لكلمة انهيار من معنى.
مرت عملية وضع “حزب الله”، ومن خلفه إيران، يده على لبنان بمراحل مختلفة وصولا إلى الوضع الراهن الذي عنوانه “العهد القوي”. لا يمكن عزل ذلك عن فرض “حزب الله” مرشّحه رئيسا للجمهورية، وصولا إلى تشكيل الحكومة الحالية برئاسة سعد الحريري الذي يبحث منذ سنتين، من دون نتيجة، عن حلول ومخارج انطلاقا من نتائج مؤتمر “سيدر” الذي انعقد في نيسان – أبريل من العام 2018. مرّت عملية وضع اليد الإيرانية على لبنان بحدث في غاية الأهمّية هو القانون الانتخابي الذي كان من صنع “حزب الله”، والذي لم يتنبه لبنانيون كثيرون إلى مدى خطورته على الوحدة الوطنية اللبنانية نظرا إلى أن الهدف من القانون كان واضحا كلّ الوضوح. تمثل الهدف في سيطرة لـ”حزب الله” على الطائفة الشيعية كليّا، وهو ما حصل بالفعل، وتأمين كتلة مسيحية كبيرة لـ”التيّار الوطني الحر” برئاسة جبران باسيل. في المقابل كان مطلوبا كسر زعامة سعد الحريري للسنّة وإضعاف وليد جنبلاط والدروز عموما، وتهميش سمير جعجع، على الرغم من عدد النواب الذي حصلت عليه “القوات اللبنانية”… وإلغاء حزب “الكتائب اللبنانية” وإخراجه من المعادلة السياسية اللبنانية.
ما أوصل البلد إلى هذا الوضع الصعب هو “حزب الله” ولا أحد آخر غير “حزب الله”. كل الباقي تفاصيل مملّة وبحث عن أعذار لتبرير عملية وضع اليد الإيرانية على لبنان بعد عزله عن محيطه العربي.
من وضع نهاية لمشروع الإنماء والإعمار في العام 2005، كان “حزب الله” الذي تتهم المحكمة الدولية عناصر قيادية فيه بالوقوف وراء اغتيال رفيق الحريري. توقّف كلّ تطور ونموّ على الصعيد اللبناني منذ 2005. من كان لديه أيّ أمل في عودة لبنان إلى وضع طبيعي بعد خروج الاحتلال السوري من لبنان، تبدّد أمله بعدما نجح “حزب الله” في ملـء الفراغ الأمني والسياسي الذي نجم عن الانسحاب السوري في نيسان – أبريل 2005.
الاحتجاج للتعبير عن اليأس
بين 2005 و2019، أي وصولا إلى الثورة الشعبية التي يمرّ فيها لبنان، من الطبيعي سعي “حزب الله” إلى الدفاع عن مكاسبه، وذلك بغض النظر عن حال البؤس والفقر التي يعاني منها المواطن العادي. يُفترض في حال البؤس والفقر ألّا تحول دون أن يطرح المواطن أسئلة بديهية يمكن أن تساعد في فهم الأسباب التي أدّت إلى الانهيار الاقتصادي.
ليس ضروريا انسحاب حال البؤس والفقر على العقل اللبناني. لذلك لا مفرّ من التساؤل ما الذي جعل لبنان يزدهر في الماضي؟ الجواب أن ازدهاره لم يكن معزولا عن لعب دور النأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية. هناك عرب كانوا يأتون إلى لبنان ويستثمرون فيه ويودعون أموالهم في مصارفه. من يتجرّأ الآن على إيداع أي مبلغ في أي مصرف لبناني بعدما أدخل “حزب الله” لبنان في دوّامة العقوبات الأميركية على إيران وأدواتها الإقليمية.
استفاد لبنان في الماضي من كلّ الهزات الإقليمية. كانت الرساميل العربية تهرب إليه ولا تهرب منه. لم يعد لبنان في الوضع الراهن، وفي ظلّ “العهد القوي” الذي أسّس له “حزب الله”، غير مأوى للحوثيين في اليمن ومن على شاكلتهم من الذين أخذوا على عاتقهم الإساءة إلى كلّ دولة من دول الخليج العربي. هل هذه وظيفة لبنان في ظلّ النظام الذي أقامه “حزب الله”؟
تبقى وسط الظلام اللبناني نقطة مضيئة. أظهر شيعة لبنان، بأكثريتهم، أنّهم لبنانيون أوّلا، وذلك على الرغم من الجهود المستمرّة لـحزب الله” منذ ما يزيد على خمسة وثلاثين عاما من أجل تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في البلد.
لا تخفي هذه النقطة المضيئة دخول لبنان مرحلة جديدة تتسّم بغياب الحلول السحرية. ليس مسموحا للحكومة التقدّم بأيّ مخارج من أيّ نوع. أما الذين نزلوا إلى الشارع فليس لديهم سوى التعبير عن اليأس. هذا اليأس نتيجة طبيعية لوجود دُويْلة تتحكّم بالدولة اللبنانية، دويلة تعتقد أن “العهد القوي” هو دولتها، وهو ثمرة لتراكمات وإنجازات بدأت تتحقّق في 2005 وتوجّت بتهديد حسن نصرالله لسعد الحريري، من دون أن يسمّيه، من مغبّة تقديم استقالة حكومته… هل من وقاحة أكثر من هذه الوقاحة!