… وفي اليوم السادس على «الثورة البيضاء» في لبنان، ارتسمتْ بوضوحٍ لعبةُ «عضِّ أصابع» بين السلطة المُنْكَفئة إلى «خطوطِ الدفاع» وبين المحتجيّن الذين رفضوا «بصوتٍ واحد» الورقةَ الإصلاحيةَ لحكومة الرئيس سعد الحريري وباتوا يتعاطون مع كل «تنازُل» من الطبقة السياسية على أنه «نقطة» تمهّد لـ«قضْمِ» أخرى في الطريق إلى مطلب إسقاط الحكومة وإجراء انتخابات نيابية مبكرة.
وبدا جلياً أمس، أن الحِراك الشعبي المليوني يتعاطى مع ورقة الإصلاحات وإقرار الحكومة مشروع موازنة 2020 بعجز 0.6 في المئة، على أنه «هدية مسمومة» لـ«تخدير» الانتفاضة بإجراءاتٍ سرعان ما جرى رسْم علامات استفهام حول مدى قدرتها على تحقيق الإنقاذ المرجو من «الورطة المالية» التي شكّلت «قوة الدفْع» الرئيسية لانفجار الشارع الذي «سَحَبَ الثقة» عملياً من الحكومة.
وفيما كانت التحركات الاحتجاجية تستمرّ على امتداد الخريطة اللبنانية، من وسط بيروت، مروراً بجبل لبنان (مناطق مسيحية ودرزية) وصولاً الى الشمال (مناطق مسيحية وذات غالبية سنية ولا سيما طرابلس وعكار) والبقاع والجنوب (في مناطق ذات ثقل شيعي) في مؤشّر إلى «عناد» الثوار الذي يتحدّون الأمطار ابتداءً من اليوم والذين يتمسكون بمطالبهم، على أهمية «النقلة الخيالية» أو «الدفعة على الحساب» التي حققها ضغطُ الشارع في اتجاه إقرار موازنة خُفض فيها العجز بـ72 ساعة من نحو 4 مليارات دولار إلى أقل من 400 مليون دولار.
وفي حين سُجّلت أمس، متابعة عن قُرب للدول العربية والغربية للمشهد اللبناني وسط محاولة الحريري شرْح خريطة الطريق الإصلاحية التي جرى التفاهم عليها للسفراء الذين التقاهم، مضتْ السلطة بما يشبه الحرك «السلحفاتي» بمواجهة الانتفاضة المتوثّبة، في ظلّ ملامح تشي بأن هذه السلطة باتت عالقة بين مطرقة تفسّخاتٍ بداخلها وبين سندان كيفية تهدئة «الثورة» أو تفخيخها.
وفي إطار ما اعتُبر محاولةً لمحاكاة جزئية لمطالب المحتجين، برز في الساعات الماضية كلامٌ عن منحى لتعديل حكومي يشمل بعض الوزراء أو خفض عددهم في الحكومة عبر تسريباتٍ لقريبين من الحريري سرعان ما تمت فرْملتها وسط إشارات غير مشجعة جاءت من القصر الجمهوري، حيث نقل تلفزيون LBCI عن مصادر وزارية قريبة من الرئيس ميشال عون أن من المبكر الحديث عن تعديل حكومي، «فالحديث الآن هو عن عملية تكليف بدلاء من وزراء «لقوات اللبنانية» (الأربعة الذين استقالوا)».
وفي موازاة ذلك، لاحت مؤشرات إلى انتقال «كرة نار» الشارع إلى قلب الحكومة التي يبدو وكأن بقاءها صار إنفاذاً لقرار «حزب الله»، والتي بات أطرافها وكأنهم «يأكلون بعضهم»، وهو ما عبّر عنه أمران: هجمةٌ اعتُبرت بمثابة «طلب رأس» رئيس «التيار الوطني الحر» وزير الخارجية جبران باسيل سياسياً (هو الرجل الأقوى في العهد) من أكثر من فريق أبرزهم الزعيم الدرزي وليد جنبلاط ورئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية والرئيس السابق نجيب ميقاتي باعتبار أن هذا قد يكون «كبش الفداء» لإنقاذ العهد وتهدئة الشارع.
وكرر جنبلاط أمس، هذا المطلب ضمناً بسؤاله الحريري عبر «تويتر»، «الى متى يا شيخ سعد ستبقى على هذا التفاهم الذي دمّر العهد ويكلّفنا من رصيدنا في كل يوم؟ وأليس أفضل تعديل الحكومة وإخراج رموز الاستبداد والفساد منها».
وترافق ذلك مع تأكيد مصادر القصر الجمهوري ضرورة بقاء الحكومة كفريق متضامن، وقالت: «لكن الحزب التقدمي (جنبلاط) يحاول خلق بلبلة، فإن كنتَ معارِضاً عليك أن تذهب بالمعارضة إلى النهاية كما فعلتْ «القوات» وتخرج من الحكومة ولكنهم بدل ذلك يذرفون الدموع على ضفاف نهر الغدير» في إشارة ضمنية إلى زيارة وفد من «التقدمي» لـ«حزب الله» قبل أيام قليلة.
ولم تحجب هذه الوقائع السياسية الضاغطة الأنظارَ عن «الهبّة الشعبية» التي شملتْ أمس تحرّكاً باتجاه مصرف لبنان وسط شعاراتٍ حمّلتْه مسؤولية هندسات مالية اعتُبرت مُكْلفة ومُرْبحة للمصارف التي تستمرّ اليوم بالتوقف عن العمل (لليوم الخامس على التوالي) رابطة فتْح أبوابها «بانتظار استتباب الأوضاع العامة في البلاد»، وسط معلومات عن أن «المركزي» زوّدها بأموال من ودائعها الموجودة لديه لتلبية حاجات المواطنين عبر أجهزة الـATM.
وتَزامن «صمودُ» الشارع على زخْمه، مع ملامح «هجوم مُعاكِس» اتخذ أشكالاً عدة، بينها بدء تحميل الحِراك مسؤولية أزمات معيشية سيولّدها استمرار قطْع الطرق (مثل انقطاع الخبز في ضوء عدم نقل الطحين أو إرباك قطاع الاستشفاء أو التأثيرات الاقتصادية لشلّ البلد)، والسعي إلى «تحييد» مؤسسات إعلامية ذات ثقل عن دعْم الحِراك، وإلى إعادة الحياة الطبيعية عبر فتْح المدارس والجامعات وهو ما تَسبّب بانقساماتٍ علنية وسط إصرارٍ أهلي وطالبي وحتى من مؤسسات تربوية على المضي بالامتناع عن معاودة الدروس.
وتَرافق كل ذلك مع ضغط أركان في السلطة على الجيش اللبناني لفتْح الطرق ولو بالقوة، وسط خشيةٍ من احتكاكاتٍ متعمّدة قد تحصل عند نقاطٍ معيّنة بين محتجّين يقطعون الطرق ومواطنين آخَرين يصرّون على المرور بحيث يضطر الجيش للتدخل وفتْحها.
وكانت أولى مؤشرات هذا «الهجوم المضاد» بدأت ليل الثلاثاء، مع مسيرات لنحو 200 دراجة نارية رفع سائقوها أعلاماً لحركة «أمل» و«حزب الله» (نفى الفريقان أن يكون وراء ذلك أي قرار حزبي) التي توجّهت نحو ساحة الشهداء في وسط بيروت وتصدّى لها الجيش وفرّقها ومنَعها من الاحتكاك بالمتظاهرين، وسط تأكيد مصدر عسكري أن الجيش لن يقف على الحياد بحال تم الاعتداء على المتظاهرين في أي منطقة لبنانية. علماً أن مظاهر «الشارع بالشارع» لاحت أمس أيضاً مع تظاهرةِ دعْم لرئيس البرلمان نبيه بري في صور التي «تثور» منذ أيام ضدّ السلطة ورموزها وبينهم بري.
وكان الحريري اتّصل بقائد الجيش العماد جوزف عون وعرض معه التطورات الأمنية، مشدداً على وجوب حماية المتظاهرين وعدم السماح بالمساس بأيّ منهم، مع تأكيد وجوب فتح الطرق إفساحاً في المجال لحرية تنقل المواطنين.