كتبت رنى سعرتي في صحيفة “الجمهورية”:
عندما رفض مصرف لبنان والقطاع المصرفي خلال مناقشة مشروع موازنة 2019، تحمّل كلفة اصدار سندات بقيمة 11 الف مليار بفائدة 1 في المئة من اجل المساهمة في خفض كلفة خدمة الدين العام بقيمة 1000 مليار دولار، كانت الكلفة الفردية التي سيتحّملها كلّ من المصارف الكبرى تبلغ حوالى 20 مليون دولار، بينما ستصل اليوم، وفقاً لورقة الحكومة الاصلاحية الى حوالى 220 مليوناً.
من الواضح انّ ورقة الحكومة الاصلاحية التي لم يُعيرها المحتجّون منذ أسبوع، أيّ أهمية، حمّلت القطاع المصرفي «وِزْرَ» خفض عجز الموازنة الى 0,6 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي عبر فرض مساهمة من مصرف لبنان والمصارف التجارية بخفض كلفة خدمة الدين بنسبة 50 في المئة في العام 2020 مما سيوفر 4500 مليار ليرة للخزينة، بالاضافة للى فرض ضريبة دخل استثنائية على المصارف لسنة واحدة فقط، مما يوفر 600 مليار ليرة.
وفي حين يعتبر المحتجّون في الشارع انّ القطاع المصرفي أحد الأسباب الرئيسية للأزمة، يرى الخبراء الدوليون انّ تحميل القطاع كافة الاعباء أمر غير مجدٍ وهو تدبير لا يمكن اعتماده سوى لمرّة واحدة، في حين يرى آخرون انّ «تحميل المصارف عبء خفض كلفة خدمة الدين العام هو بمثابة تخلّف الحكومة عن السداد، وهو أمر لا يحلّ أية مشكلة بل يخلق المزيد من الأزمات. لأنّ اي عملية haircut، أي اقتطاع نسبة من قيمة السندات، ستؤدي إلى شلّ المصارف».
في المقابل، يرى الباحث في جامعة هارفرد والخبير الاقتصادي دان قزي، ان النسبة التي على المصارف دفعها لا يجب تسميتها بـ«المساهمة» كما جاء في ورقة الحكومة الاصلاحية»، بل انّها اعادة للارباح غير الشرعية التي تمّ تحقيقها في العام 2016 عندما قام مصرف لبنان بهندساته المالية.
وكان قزي من الخبراء الاقتصاديين الـ12 الذين قدّموا امس الاول اقتراحات «لبناء اقتصاد منتج ومستدام لأكثرية اللبنانيين»، وطالبوا من ضمنها «بالعمل على حلّ معضلة الدين العام وتراكمه، عبر تحويل المصرف المركزي لسندات الخزينة اللبنانية التي يمتلكها إلى سندات بفائدة متدنية، وعبر التفاوض مع المصارف التجارية الحاملة لجزء كبير من الدين العام، على خفض الفائدة على السندات التي تحملها، وعلى استرداد الأموال العامة التي حُوّلت اليها من خلال الهندسات المالية المتعاقبة عبر اخضاعها لضريبة استثنائية».
وقال قزي لـ«الجمهورية»، انّ ورقة الحكومة الاصلاحية «ليست سيّئة نسبياً لو لم يكن هناك احتجاجات وتظاهرات. ولو تمّ اقرارها منذ 6 أشهر أو عام، كانت لتلقى ترحيباً وتصفيقاً، لكنّها اليوم لم تعد تجدي وجاءت متأخّرة جدّاً».
واوضح قزي بالنسبة للمصارف، انّ ما يطالب والخبراء الاقتصاديون به ضمن ورقتهم الانقاذية، ليس «مساهمة» كاللغة التي استخدمتها الحكومة، بل استرداد اموال الهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان، والتي حققت من خلالها المصارف في الاعوام 2016 و2017 و2018 أرباحاً طائلة ووهمية.
وسأل: «على أي اساس يتمّ اعطاء المصارف فائدة وصلت الى 40 في المئة على اموالها؟ ما هي القيمة المضافة التي قامت بها المصارف من اجل دفع تلك المبالغ الطائلة لها؟».
وفيما اشار الى انّ استرداد الاموال المنهوبة لا يعني فقط الارباح المحققة من خلال الصفقات، شدّد على انّ استرداد الاموال المحققة من خلال الهندسات المالية هو إجراء «تجميلي» لأنّ تلك الارباح كانت وهمية، على الورق فقط، وبالتالي استردادها سيكون وهمياً أيضا.
وشرح قزي، انّ استرداد تلك الاموال سيسهم في خفض عجز الموازنة لكنّه لن يعالج أزمة العجز في ميزان المدفوعات، لأنّ تلك الاموال ليست سيولة جديدة Fresh Money بل هي أرباح محققة على الورق، وبالتالي ستنتقل «من العبّ للجيبة». مشدّداً على انّ عجز الموازنة مشكلة لكنّها ليست المشكلة الكبرى والاخطر.
واوضح انّ عجز الميزان التجاري لن يُحلّ عبر استرداد تلك الاموال، لأنّ هذا العجز قائم بسبب خروج الدولارات من البلاد بهدف الاستيراد، وبالتالي هذه المشكلة تحتاج الى معالجات أخرى على سبيل حماية الصناعات المحلية وفرض رسوم وضرائب على الواردات (الكماليات) او على تذاكر السفر وغيرها من الامور، بهدف الحدّ من خروج الاموال.
واعتبر قزي، انّه قبل اقرار اي ضرائب او رسوم، يجب على الحكومة البدء بالاجراءات التي يُطالب بها المواطنون عبر استرداد الاموال المنهوبة واعتماد الضريبة التصاعدية ورفع الضرائب على الأرباح والريوع والفوائد واستحداث ضريبة على الثروة وزيادة معدلات الضربية على توريث الثروات الكبرى.
وفيما قال انّه لا يرفض نظام الرأسمالية، اكّد «انّ الرأسمالية الحقيقية ليست عبر الاحتكارات بل هي منافسة شرسة يربح خلالها الاقوى».
وسأل في هذا الاطار: «لو كانت المصارف اللبنانية تعمل وفقاً لمبادئ الرأسمالية الحقيقية، لماذا لم تحقق أرباحاً طائلة أيضاً في الدول التي فتحت فيها فروعا لها؟».