كتب وسام اللحام في صحيفة “الاخبار”:
دستور لبنان الفعلي هو توافق زعماء الحرب والمال باسم الميثاقية من دون اعتبار لأي منطق دستوري وقانوني. هذا هو دستور لبنان السياسي الذي أبصر النور سنة 1992 عندما تسلم تحالف أمراء الحرب ورجال الأعمال السلطة وسيطروا على مؤسسات الدولة عبر المحاصصة والزبائنية الممنهجة.
يتعايش هذا الدستور السياسي في الظروف العادية مع الدستور القانوني، أي النص الذي يدرس اليوم في الجامعات بوصفه دستور لبنان وفقاً للتعديلات التي أدخلت عليه سنة 1990. وهنا تكمن وظيفة الدستور القانوني الايديولوجية، إذ هو يسمح بإسباغ شرعية قانونية على سلطة أمر واقع نشأت خلال الحرب الأهلية، وفرضت نفسها بالسلاح والمال وبتبعيتها لجهات خارجية مختلفة.
هنا تكمن أهمية الأزمة التي يعيشها لبنان، فالأزمات السياسية الكبرى تؤدي إلى انهيار الوظيفة الايديولوجية للدستور القانوني وظهور الدستور السياسي مجرداً عارياً من دون مواربة بوصفه سلطة أمر واقع قائمة على توازن سياسي فعلي في المجتمع. هذه هي نظرية المفكر والفقيه الألماني كارل شميت الذي طوّر فكره خلال صعود النازية في ألمانيا والأزمة السياسية العميقة التي ضربت النظام القانوني الألماني حينها. فقد أكد شميت أن القانون هو مجرد أحكام عامة تخفي في طياتها قراراً سياسياً محدداً، وفي الأزمات يتحرر القرار السياسي من القانون ويظهر على حقيقته كسلطة أمر واقع لا تحتاج إلى تبرير. من هنا نفهم تعريفه الشهير للسيادة بأنها القدرة على الحسم في الظروف الاستثنائية، أي القدرة على اتخاذ القرار حول الطبيعة الحقيقية للنظام السياسي في دولة ما.
من جرّاء ما تقدم، يتبين لنا أن الصراع اليوم في لبنان هو صراع يدور حول تحديد من هي السلطة السيدة، هل هي زعماء الطوائف ودستورهم السياسي أم الشعب ودستوره القانوني؟ لذلك تشكل هذه اللحظة التي يعيشها لبنان مرحلة مفصلية كونها تعني فعلياً مطالبة الشعب باستعادة سيادته التي سلبت منه من قبل الزعماء. فالمطالبة بإسقاط الحكومة ومجلس النواب ليست مطالبة بتغيير أفراد الحكام فقط، ولا حتى مجرد إسقاط النظام بل هي صراع يهدف من خلاله الشعب إلى تأكيد سيادته عبر إرساء دستور سياسي لا مكان فيه للزعماء أي إن الهدف هو تحويل الدستور القانوني إلى الدستور السياسي الفعلي، ما يؤدي إلى المطابقة بين الشرعية والقانونية وفقا لتعبير الشهير الذي أطلقه ماكس فيبر، أي الانتقال من الشرعية الميثاقية إلى الشرعية القانونية.
لذلك، لا يمكن الحديث عن المخارج الدستورية للأزمة الحالية قبل حسم مسألة استعادة الشعب لسيادته وإسقاط سلطة الزعماء إذ حينها فقط يصبح الدستور القانوني مؤهلاً للعب دوره الفعلي وتنظيم عمل المؤسسات بشكل طبيعي. وقد لا نستغرب أن مجلس النواب الحالي بعد سقوط سلطة الزعماء هو الذي سيوافق على تشكيل حكومة جديدة لا علاقة لها بتحالف أمراء الحرب ورجال المال المهيمن اليوم على لبنان.
من جهة أخرى، تظهر الأزمة أيضاً محدودية دستور لبنان القانوني الذي نتج عن اتفاق الطائف وعدم قدرته على تأمين أي وسيلة فعلية تسمح بحل النزاع السياسي من دون الحاجة إلى توافق الزعماء. وهذا ليس من قبيل الصدفة، بل هو قرار سياسي يهدف إلى منع أي حل مؤسساتي قد يفرض على الزعماء. على سبيل المثال، يعتبر حل مجلس النواب من الحلول الطبيعية التي تسمح لنظام ما بفضّ نزاع سياسي عبر الاحتكام إلى الشعب، أي إن حل المجلس هو وسيلة كي يمارس فيها الشعب سيادته، وهذا هو تحديداً ما لا يمكن القيام به في لبنان، لكون السيادة كما شرحنا هي في قبضة زعماء الطوائف الذين لا يقبلون بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع إلا عندما يتوافقون على ذلك، وأيضاً فقط في الظرف الذي يناسبهم من أجل إضفاء شرعية قانونية على سلطة الأمر الواقع التي يمارسونها على لبنان.
فكما هو معلوم، يفرض الدستور مجموعة من الشروط التعجيزية التي تجعل من حل مجلس نواب مستحيلاً فعلياً، إذ لا يمكن حل المجلس إلا في الحالات التالية:
- إذا امتنع مجلس النواب، لغير أسباب قاهرة، عن الاجتماع طوال عقد عادي أو طوال عقدين استثنائيين متواليين لا تقل مدة كل منهما عن شهر (المادة 65)
- في حال ردّه الموازنة برمّتها بقصد شل يد الحكومة عن العمل (المادة 65).
- إذا أصرّ المجلس على تعديل الدستور بأكثرية ثلاثة أرباع مجموع أعضائه رغم رفض الحكومة لهذا التعديل.
وهكذا نلاحظ أن الدستور القانوني يخدم مصالح الدستور السياسي، أي إنه يمنع إيجاد المخارج المؤسساتية للأزمات السياسية، بل يفرض بقاء مجلس النواب والحكومة، أي بقاء الغطاء القانوني لزعماء الطوائف الذين يضعون اللبنانيين أمام خيار وحيد: إما التوافق باسم الميثاقية والتعايش الطائفي أو شلل المؤسسات وانهيار الدولة أو حتى الحرب الأهلية.
ليست أزمة لبنان اليوم أزمة دستورية، بل أزمة سيادة، وحسمها سيحدد مصير نظامنا السياسي، أي سيفضي إلى معرفة من هي الجهة السيدة في لبنان: هل سيستمر الزعماء في فرض دستورهم السياسي أم سيتمكن الشعب من استعادة سيادته السليبة بعد سنين من سلطة أمر واقع فرضت نفسها بالسلاح والمال والتبعية للخارج.