كتب طارق ترشيشي في “الجمهورية”:
تعوّد اللبنانيون على مرّ الازمان انّ الازمات التي يمرّون بها «لا تصغُر إلّا بعد أن تَكبُر» ووفق مقولة «اشتدّي يا أزمة تنفرجي». فهل الأزمة الناشبة الآن تحت جنح الحراك الشعبي اقتربت من النهاية؟
تدلّ الحوادث التي تحصل بين المتظاهرين والمعتصمين، وفي بعض الشوارع في بيروت وضواحيها والمناطق، الى أنها تضرّ بهيبة الحراك ومطالبه التي التقت عليها الغالبية السياسية والشعبية، وتهدد بتحوّله الى شارعين متواجهين، ما يُفقد معناه الايجابي عندما انطلق على أساس أنه حراك وطني لا طائفي.
فالحوادث الامنية المتلاحقة، من الاعتصام امام قناة «نيو. تي. في» في محلّة وطي المصيطبة، الى التوتر الذي حصل في محلّة قصقص، والتكسير في المنصورية، والاحتكاكات التي حصلت في النبطية وقبلها في صور… كل هذه الحوادث، ألحقت بالحراك، في رأي سياسي مخضرم، أضراراً معنوية وسياسية كبيرة نزعت عنه الصورة الوطنية التي بدأ بها، بحيث انه تمّ تسييسه بفِعل دخول قوى سياسية وحزبية وخارجية على خَطّه، فتحوّل في هذه الحال شارعين، شارع يهاجم «حزب الله» وحلفاءه في السلطة ويوجه الانتقادات والشتائم اليهم في إطار مقولة «كُلّن يعني كُلّن» بموضوع الشراكة في المسؤولية عمّا آلت اليه أوضاع البلاد سياسياً واقتصادياً ومالياً ومعيشياً، ويقابله
شارع آخر يرد الاتهام ويرفض بشدة مقولة «كُلّن يعني كُلّن»، ويخاطب الشارع الآخر ويقول للذين يقفون خلفه وركبوا موجة الحراك: «إننا نعرف من أنتم، فإذا لم تتوقفوا عند حدكم سنتحرّك».
امّا الولايات المتحدة الاميركية ،التي يقول السياسي المخضرم انها متدخّلة في الحراك مباشرة ومداورة، فإنها خرجت منه بالمعنى الأمني. فهي سياسياً تريد لحكومة الرئيس سعد الحريري البقاء، أمّا أمنياً فإنها بعد المعارك التي خسرتها في الاقليم تريد إلحاق هزيمة بالمحور الذي كان سبب هزيمتها، وذلك عبر توجيه ضربة لـ»حزب الله» وحلفائه في لبنان، كونهم من ضمن ذلك المحور.
ولذلك، عندما قيل انّ لبنان مثل العراق الذي كان له نصيبه أخيراً من التظاهرات الشعبية في مختلف محافظاته، لم يكن الامر عبثاً، فكلا البلدين يتشابهان في موضوع الفساد.
«حتماً ستكون هناك تنفيسة للأزمة»، يضيف هذا السياسي المتابع لما يجري، وهذه التنفيسة ستكون تغيير الحكومة في وقت قد لا يكون بعيداً، لأنّ فكرة تعديلها التي يروّج لها المعنيون (رئيسا الجمهورية والحكومة تحديداً) لم تعد تلبّي الحاجة، ولكن التغيير ربما يصطدم بعقبات كثيرة خصوصاً اذا كان المراد الاتيان الى الحكومة الجديدة بوزراء غير نواب، حيث انّ البعض سيعارض ذلك وعلى رأس هؤلاء رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل، الذي لم يقبل بالفصل بين النيابة والوزارة عند تسمية حصّة «التيار البرتقالي» من المقاعد الوزارية، وذلك على غرار ما ذهب إليه حليفه «حزب الله» في هذا الاتجاه.
«هناك مشكلة كبيرة داخل السلطة»، يكشف السياسي المخضرم نفسه، ويشير الى انها تكمن في وجود خلافات، أو على الاقل عدم انسجام بين المرجعيات الرئاسية، ويحاول «حزب الله» التوفيق بينها. ولكن المشكلة أنّ بعض هذه المرجعيات لم تشعر بعد بفداحة الأزمة السائدة وخطورتها، الأمر الذي يثير مخاوف من دخول البلاد في طور من الاضطراب وعدم الاستقرار، بما يمهّد لإنتاج حلول «على الحامي». وفي هذا السياق، يعود هذا السياسي بالذاكرة الى انقسام البلاد بين شارعي 8 و14 آذار، ووقوع أحداث 7 ايار 2008 التي جاءت بعد اعتصام قوى 8 آذار في ساحة رياض الصلح، وأدّت الى مؤتمر الدوحة الشهير الذي أنتجَ «اتفاق الدوحة»، وأدّى الى انتخاب رئيس جمهورية جديد وإعادة تكوين السلطة.
ويأخذ السياسي المخضرم نفسه على فريقي 8 و14 آذار عنادهما، ولكنه يشير الى انهما موجودان الآن معاً في السلطة، على عكس ما كانا عليه عام 2008، ثم يفصّل في توصيف الوضع، فيقول:
ـ أولاً، انّ سقف رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط هو عند «حزب الله»، ولكنّ الحزب لم يستخدم كل الأوراق معه حتى الآن.
ـ ثانياً، انّ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع يَتهيّب من دور الجيش. وفي رأي السياسي المخضرم، انّ جعجع ارتكب «خطيئة العمر» عندما اعتقد أنّ خروجه من الحكومة ودخوله بقوة على خط الحراك الشعبي، سيدفع بالآخرين الى أن يحتسبوا له ألف حساب، ولكن الواقع جاء عكس ذلك، لأنه إذا حصل تعديل حكومي فإنّ المعنيين سيعيّنون وزراء غير «قوّاتيين» بدلاء لوزراء «القوات اللبنانية». ولكن ما زال في إمكان جعجع أن يُعاود استدراك وضعه بالعودة عن الاستقالة، لئلّا يخرج من المعادلة السياسية الحكومية نهائياً.
ـ ثالثاً، انّ طرابلس هي التي تحتاج الى الرعاية والعناية الفائقة. وبمشاركتها في الحراك الشعبي بهذه الحلة الوطنية خرجت من حلّة التطرف والتشدد التي فرضت عليها ووصَمت صورتها، ولذا ينبغي مساعدة عاصمة الشمال على تكريس إنجازها الكبير بمشاركتها الوطنية الجامعة في الحراك الشعبي، وذلك لمنع وقوعها مجدداً أسيرة القوى المتطرفة والمتشددة.
وفي أي حال، يقول هذا السياسي انّ القوى السياسية الداخلية والخارجية التي تقف خلف الحراك الشعبي استعملت كل قواها، إلّا انّ القوى الأخرى لم تستعمل بعد كل قواها. ولذا، فإنّ استمرار الحراك بهذه الصورة من التسييس التي هو عليها لن يكون مفيداً له وللبلد عموماً.
وفي المقارنات بين الأمس واليوم، يقول السياسي المخضرم انّ الولايات المتحدة الاميركية كانت عام 2005 في هجوم على المنطقة، حيث كانت تحتل العراق وتهاجم سوريا ولبنان، ومع ذلك تمكّن «حزب الله» من وَقف الانهيار على الجبهة اللبنانية بعد الخروج السوري من لبنان، وجاءت حرب 2006 التي صمد فيها لتَمكّنه من التأثير، والبعض يقول التغيير، في المعادلات الداخلية والخارجية. امّا الآن فإنّ الولايات المتحدة الاميركية تخرج من المنطقة، فيما القوى الأخرى المناوئة لها في لبنان والمنطقة لم تستعمل بعد كل أوراقها، ولكنّ الانطباع لبنانياً هو انه مهما حصل على مستوى النزاع الداخلي بين القوى السياسية اللبنانية، فلن يخسر أحد في لبنان، وهذا الشعور يعبّر عنه الجميع على اختلاف انتماءاتهم ومشاريعهم السياسية والطائفية والمذهبية.
ويرى السياسي إيّاه أنّ الوضع في لبنان هو أقوى بكثير من كل المظاهر المعاكسة، لأنّ نظامه هو من أقوى الانظمة، إنما لم يكن الأقوى في البلاد العربية، مع العلم انّ تلك الانظمة ليست بضعيفة، بدليل انها لم تتغير. ففي مصر مثلاً سقط الرئيس حسني مبارك ولم يسقط النظام، وكذلك الامر حصل في تونس والعراق وغيرهما.