IMLebanon

“مانيفست” الحكم الوطني الديموقراطي

كتب سعد الله مزرعاني في “الاخبار”:

مدهشة الانتفاضة الشعبية اللبنانية التي ما لبثت أن تحوّلت صاخبة وواسعة وشاملة منذ يومها الثاني. هي مدهشة خصوصاً بما رفعت من شعارات ضد الطائفية وضد الطاقم الحاكم وضد استمرار النهب. ثم هي مدهشة بما أعلنته من رفض لمناورات الحكام المتحاصصين في «إصلاحات» مجلس الوزراء يوم الاثنين الماضي، وهي إصلاحات مخادعة وتخديرية ومناورِة من أجل كسب الوقت وامتصاص النقمة والزخم والأمل، ومن أجل الإمعان في مسار السياسات اللصوصية وجوهرها بيع مرافق القطاع العام السيادية، وصولاً إلى قطاع النفط والغاز. لا ننسى أن هذا القطاع الحديث قد جرى التفريط، مبكراً، بحقوق لبنان فيه، من خلال قرارات تحاصصية وتلزيمات مجحفة ومشبوهة لعصابات المال والسلطة في مجلس الوزراء ممن أكلوا الأخضر واليابس فأفقروا أكثرية الشعب اللبناني وشتّتوا شبابه وشاباته إلى أربع أرجاء الدنيا…

إن الصرخة ــــ الصحوة المدوية ضد الطائفيين ومستغلّي الطائفية تكذّب بشكل دامغ أولئك الذين امتهنوا الترويج لنسخة غريبة من لبنان «الغير شكل» والذي بالطائفية نشأ، وبها، وحدها، يستمر. هذا إنجاز بِكر للانتفاضة ذات الطابع الشبابي الساحق. أما الإنجاز الثاني فذلك الذي ربط بين التطييف والنهب، عبر منظومة المحاصصة، وبين استغلال الدين والطائفية من خلال سياسات تُسخَّر لها المؤسسات الرسمية وتنشأ من أجلها أدوات وممارسات اجتاحت كل جوانب حياتنا السياسية فضلاً عن الإدارة والنقابات والاتحادات والصحافة والإعلام عموماً. ولقد استشرى هذا الأمر الممعن في تطييف ومذهَبة الدولة والمجتمع، حتى حين كان بعض تطبيقاته يتناقض، بشكل فج، مع الدستور (تعطيل مباريات مجلس الخدمة المدنية حضر بقوة في حركة الاحتجاج المتراكم حتى التحول النوعي في 17 الجاري). في السياق الرجعي نفسه بلغ الأمر بمن ائتمن وأقسم على تطبيق الدستور أن يضفي على التعطيل صفة شرعية بتعطيل شرعية الدستور نفسه، سعياً لدفن فكرة الإصلاح من أساسها وإعادة تحكيم الطائفية والطائفيين برقاب اللبنانيين: اليوم وفي المستقبل على حدّ سواء.

الإنجاز الثاني، البِكر هو الآخر، في إشهار سلاح المحاسبة والعقاب. المطالبة باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة مؤقتة من خارج نادي المحاصصة، هي عبور إلى مرحلة جديدة سعياً لتفعيل المراقبة الشعبية التي تعطّلت طويلاً لمصلحة الولاء الطائفي والمذهبي وبفعل شبكة زبائنية كانت تنظم عملية استكمال النهب وتسخير السلطة والإدارة والمال العام لتوزيع الفتات على المحاسيب والأنصار حسب الموقع والدور ونوع الخدمة المطلوبة.

أما الإنجاز الثالث ففي المطالبة بفتح ملفات النهب والفساد والإثراء غير المشروع مع ما يستدعيه من رفع السرية المصرفية والحصانات الرسمية المتنوعة وفضح مافيا النهب ما بين المصارف والبنك المركزي ورموز المحاصصة. هذه الإنجازات البكر المقرونة بجرأة على الزعماء – الحكام، تجار الدين والطائفية، هي إنجازات تاريخية خصوصاً إذا استُكملت بما ينبغي أن يعتمد من توجّه أو برنامج بديل أو سياسات نقيضة وهي، وفق المطالب والحاجة، ممكنة التكثيف على النحو الآتي:

1- نبذ الطائفية ليس مجرد شعار أخلاقي يتصل فقط بالتسامح بين «جناحي لبنان»: المسلم والمسيحي. هي مسار ينبغي أن يُكرّس بتطبيق الدستور (في قانون الانتخاب تحديداً) بشأن الطائفية السياسية (التي إلغاؤها، حسب الدستور، «هدف وطني كبير») بموجب الآلية المقررة في المواد 22 و24 و95. إن إقرار المساواة في المواطنة كأساس لبناء السلطة والشرعية والمؤسسات هو خطوة حاسمة للتخلص من منظومة المحاصصة وما يخدمها من دويلات ودكاكين منعت بناء دولة مواطنة مدنية موحدة ومستقرة وسيدة.

2- أما المحاسبة والعقاب فيتمثّلان، راهناً، بتغيير كبير في السلطة السياسية عبر استقالة الحكومة وتشكيل حكومة كفاءات مؤقتة تجسّد أول خطوة تغيير في سلطة القرار، وتحضّرٍ، عبر انتخابات مبكرة، لانبثاق سلطة بديلة دائمة من ضمن مبدأ تداول السلطة عبر قانون عصري، نسبي ومتحرّر من القيد الطائفي، وانتخابات نزيهة: انتخابات مجلس نيابي جديد، ومن ثم حكومة ورئيس جمهورية، ينفذان سياسة وبرنامجاً إصلاحيين يجسّدان أهداف الانتفاضة في قيام سلطة تستند إلى القانون والدستور وتُوحِّد البلاد وتؤمن إدارتها واستقرارها بالرقابة والمحاسبة عبر قضاء مستقل.

3- في الموضوع الاقتصادي ينبغي الانطلاق من استعادة المال المنهوب في نطاق اعتماد سياسة جديدة بالكامل، تقوم أولاً، على مبادئ حفظ الثروة الوطنية المتمثلة في النفط وإعادة النظر في المراسيم المجحفة التي أقرت خلال السنوات القليلة الماضية بما يحفظ حقوق الدولة والمجتمع. وتقوم، ثانياً، على تطوير ورعاية القطاعات المنتجة الصناعية والزراعية والخدماتية بما فيها الجديدة في حقل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والإعلام… إن من شأن هذين التغيرين في السلطة السياسية والتوجهات الاقتصادية تحرير لبنان واللبنانيين من منظومة المحاصصة والنهب، وكذلك من التبعية الاقتصادية التي تأسس في كنفها النظام الاقتصادي اللبناني.

لكن… لا جدال في عفوية الانتفاضة. ما ولّدها هو تراكم الفضائح وآخرها فضيحتا الحرائق والمطار وضريبة تطبيق الواتساب والبنزين. هي عمّمت ولم تستثنِ من بين المشاركين في السلطة أي طرف رغم أن المسؤولية ليست واحدة. ذلك أن الطرف غير المتورط في النهب لم يفعل أي أمر أساسي، رغم الوعود، لمواجهة مواصلة استباحة الدولة بشكل فاقع ومستفز. قوة انطلاقة الانتفاضة جاءت من عفويتها. لكن العفوية هي نقطة ضعف كذلك. ولأن قوى التغيير التقليدية كانت شبه غائبة عن الفعل والتأثير (رغم أدوار لبعضها سبّاقة في الاعتراض والاحتجاج والمواجهة)، فإن الانتفاضة المفتقرة إلى عنصر التماسك والتنظيم والخطة ووضوح الأولويات…، معرضة للأخطاء والاستغلال والضياع في مناخ الانفلاش وكثرة المتدخلين (لأسباب بعضها مشبوه)، وكذلك كثرة المتسلقين بهدف جني مكاسب سريعة. مع ذلك لا بد من توحيد الأهداف العامة وهي يمكن تلخيصها بالآتي:

1- تشكيل حكومة مؤقتة حيادية من ذوي الاختصاص والنزاهة، تعيد الاستقرار وتحضر لانتخابات مبكرة على أساس قانون منسجم مع أحكام الدستور الملزمة (نسبي وخارج القيد الطائفي)، وذلك خلال ستة أشهر.

2- تشكيل لجنة قضائية لملاحقة ناهبي المال العام.

3- تخفيض فوائد الدين إلى النسب المعمول بها دولياً.

هذا المسار يتكامل مع إنجاز التحرير الذي أمّن استعادة الأرض المحتلة ووفر لبلدنا، ولا يزال، القدرة على طرد العدو الصهيوني ومنعه من تكرار عدوانه على لبنان. إن الذين يحاولون استهداف المقاومة من خلال الانتفاضة إنما يستهدفون الانتفاضة نفسها وكل لبنان. ذلك، في المقابل، يتطلب مقاربة جديدة من قِبل المقاومة: فلا يُترجم الدفاع عن أولويتها بالرضوخ لشروط مافيا النهب، فتدفع الثمن، من لقمة عيشها وكرامتها، الأغلبية الشعبية الساحقة من اللبنانيين، فضلاً عن بقاء بناء دولة المواطنة والقانون والمؤسسات والعدالة والسيادة رهن الفئويات والتبعية.

تدشن الانتفاضة بدء الارتقاء بالنضال نحو مرحلة إقامة حلم وطني ديموقراطي عبر الجمع السليم ما بين التحرير والتغيير! فهل تكون ونكون بهذا المستوى؟! إنه مسار نضالي طويل!