ما يجري في لبنان بات أكثر من ثورة شعبية، وأكبر من عصيان مدني، بعد أكثر من 10 أيام من ثبات اللبنانيين في الشوارع والساحات. فشلت كل محاولات استيعاب المتظاهرين، أو دفعهم للخروج من الساحات، سواء عبر وعود براقة وأوراق إصلاحية لا يثق اللبنانيون بالسلطة السياسية التي يُفترض أن تنفذها.
لكن ما بين اللبنانيين في الشارع وما بين المسؤولين على كراسيهم وادٍ سحيق من المصالح والارتباطات يجعل هؤلاء المسؤولين يصمّون آذانهم.
لكن ما زاد في عمق المأساة هو “حزب الله” من دون أدنى شك، وإصراره العلني على إلحاق لبنان بالمحور الإيراني، وجعل لبنان ساحة متقدمة للمواجهة الإيرانية مع الولايات المتحدة!
قالها السيد حسن نصرالله في خطاب العاشر من محرّم الأخير: نعلنها من لبنان أن قائدنا في هذا الزمان هو السيد علي خامنئي! كما كان أعلن مراراً وتكراراً أنه سيشعل كل الجبهات في وجه إسرائيل والولايات المتحدة والمصالح السعودية في حال تعرّضت إيران لأي هجوم…
هكذا وجد لبنان نفسه ينزلق في مواجهة لا طاقة له على احتمالها، وها هو يدفع الأثمان من وضعه المالي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي… وربما الأمني قريباً!
انتفض اللبنانيون في وجه أداء سلطة فاسدة، باعتراف الجميع بمن فيهم “حزب الله” نفسه وعلى لسان جميع مسؤوليه. لكن الحزب أراد أن يُكابر ليتهرّب من تحمّل مسؤولية ما اقترفته يداه في كل الإقليم، من سوريا إلى اليمن، وإصراره على رهن لبنان للمصالح الإيرانية.
المفارقة أن اللبنانيين لا علاقة لهم بكل ما يجري إقليمياً، وهم يرفضون أن يكونوا ضحايا مواجهة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وهم نزلوا إلى الشوارع بالملايين ليس ضد سلاح “حزب الله” بل لمطالب مالية واقتصادية واجتماعية وحياتية وفي مواجهة كل الطبقة السياسية التي تتحكم بمصيرهم، وهذا ما وحّد اللبنانيين من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب بغض النظر عن كل الانتماءات المذهبية والطائفية والحزبية والسياسية، وهذا ما جعل البيئة الشيعية تحديداً شريكة أساسية بالانتفاضة، لأن وجع اللبنانيين مشترك على امتداد مساحة الوطن.
لكن الهمّ الأكبر بات اليوم في مكان آخر بعدما تيقّن الجميع، بدءاً من رأس الهرم، من أن لا مفرّ من استقالة الحكومة الحالية والإتيان بحكومة مصغّرة من التكنوقراط الذين يوحون بالثقة وبالشفافية. الهمّ بات في أن “حزب الله” الذي يعرقل الاستجابة لمطالب اللبنانيين يصرّ على أخذهم أسرى في مواجهة مفتعلة مع الولايات المتحدة، في حين أنه بات واضحاً أن واشنطن لا تعير أهمية لما يجري في الشوارع اللبنانية، بدليل أن لا موقف أميركياً على مستوى عالٍ مما يجري بل بعض الجمل المبعثرة لموظفين من الفئة الرابعة في الإدارة الأميركية، كما أن الإعلام الأميركي لا يعطي حيّزاً للثورة اللبنانية التي أذهلت العالم.
والمطلوب؟ المطلوب هو في العودة أولاً إلى الأسس اللبنانية الداخلية للحلّ، لأن المشاكل والمعاناة هي لبنانية بامتياز، وعدم ربط لبنان بالمواجهة القائمة بين طهران وواشنطن، وعدم تحويل لبنان ساحة إضافية لساحات المواجهة بعد صنعاء ودمشق وبغداد. المطلوب بكل بساطة الاستماع إلى مطالب اللبنانيين بعيداً عن المكابرة، لأن الاستمرار في هذه المكابرة سيؤدي حكماً غلى انزلاق لبنان إلى متاهات ستحرق الجميع حتماً بمن فيهم “حزب الله” أولاً.