أعلنت جامعة سيدة اللويزة عن احتضانها للانتفاضة الشعبيَّة التاريخيَّة الاستثنائيَّة، وطلبت من الدولة عدم قمعها، وثمنت “رغبة طلاّبها في بناء مجتمع مدني أكثر عدالة ورقيّاً، تجمعه القيم الإنسانيّة، وتغنيه القيم الرّوحيّة، وتجعل من اختلافهم عنصر غنى لا سبب خلاف”، مشيرة الى “اننا نسعى الى مساعدتهم على صون هذا الحدث من كل تدخّل ووصوليّة وانتهازيّة”.
إليكم الرسالة الكاملة لرئيس جامعة سيدة اللويزة الأب بيار نجم:
“في غمار مئويّته الأولى، يحيا لبنان حدثاً استثنائيّاً لم يختبره من قبل، انتفاضةٌ شعبيَّة تاريخيَّة واستثنائيَّة عابرة للأديان والطوائف وحّدت شعبنا حول مطلب العدالة الاجتماعيّة وشفافيّة الحكم والحقوق المدنيّة وكرامة الانسان. قد تكون لكلّ منّا قراءته الخاصّة لهذا الحدث، فمنّا من يراه ثورة محقّة، ومنّا من يعطيه ابعاداً أخرى. إن هذا الاختلاف في وجهات النّظر هو أمر حسن يعكس غنى تنوّع جماعتنا الأكاديمية وحريتها في التفكير والتعبير؛ ولكن لا يمكن لأحد أن ينكر أن عدداً كبيراً من طلاّبنا، على اختلاف مذاهبهم ومعتقداتهم، قد أجمعوا على إطلاق صرخة واحدة ضدّ الفقر، والفساد، واللاعدالة، والظلم الاجتماعي.
من هذا المنطلق، وبالتناغم مع موقف رؤساء الكنائس الكاثوليكيَّة والأرثوذكسيَّة والإنجيليَّة في لبنان، الذين دعوا الى “احتضان انتفاضة أبنائنا المشروعة وحمايتها”، وأمانة للتّقليد الجامعيّ العريق، إذ كانت الجامعات على مرّ التاريخ، بمثابة الحاضنة الأولى والإطار الحيويّ والشّرارة لكلّ حركة تغيّير اجتماعيّة ومجتمعيّة، نؤكّد احتضاننا لهذا الحدث الفريد، ونثمّن رغبة طلاّبنا في بناء مجتمع مدنيّ أكثر عدالة ورقيّاً، تجمعه القيم الإنسانيّة، وتغنيه القيم الرّوحيّة، وتجعل من اختلافهم عنصر غنى لا سبب خلاف؛ ونسعى الى مساعدتهم على صون هذا الحدث من كلّ تدخّل ووصوليّة وانتهازيّة.
وإذ نؤكّد وقوفنا الى جانب شعبنا الصّارخ مطالبا بالعدالة والكرامة، ندعو الدّولة الى عدم قمع هذا الحراك السّلميّ، والى حماية طلاّبنا المشاركين فيه من كلّ تهديد واعتداء، وأن تكون الأمّ المصغية لصرخة أولادها، والمستجيبة لمطالبهم المحقّة بشجاعة وتجرّد.
هي انتفاضة المتألّمين جمعت كلّ متألّم، الشّاب المفتّش عن مستقبله، والوالد الرّازح تحت نير مشقّة تأمين قوت عائلته، والأم التي لا تريد أن يغادر ابناؤها أرض الوطن. حتّى إنّ الأطفال قد كانوا هناك، يختصرون في صورتهم حلم وطن يريد أن يكبر. معهم نزل الطلاّب الجامعيّون، وطلاّبنا جزء أساس منهم، ليطلقوا هذه الانتفاضة-الثّورة، يدفعهم منطق جديد، تخطّى الاصطفافات الطّائفيّة، والانتماءات المناطقيّة والمذهبيّة، وخرجوا يطالبون بحقوق أساسيّة لم يحصلوا يوماً عليها، وبضمانات لغدهم لكيلا يضطروا إلى الهجرة بعد التخرّج لتأمين مستقبلهم وتحقيق أحلامهم المشروعة، نزلوا يطالبون بلبنان الذي يريدون. لقد تركوا قاعات الدّرس ليثوروا على واقع أثقل كواهلهم، فحوّلوا ساحات الوطن الى قاعات درس، وصارت وحدتهم أمثولة للعالم بأسره.
إنطلاقا من هوّيتها كمؤسّسة كاثوليكيّة مارونيّة للتّعليم العالي، وانسجاما مع رسالتها في التّربية على المواطنة، لا يمكن لجامعتنا إلاّ أن ترافق هذا الحدث الاستثنائيّ، وتميّز فرادته وتقيّم أثره المستقبليّ، لتعيد النّظر في نوعيّة الخدمة التّربويّة والأكاديميّة التي سوف نقدّمها لجيل “ثائر” لم يعد يرضى بالاعتياديّ، ولا يدع القواعد المجتمعيّة تثنيه عن قول ما يجده محقّاً وفعل ما يراه صائباً. إن هذه الحالة الجديدة تستوجب منّا نحن المربّين الارتقاء الى مستوى انتظاراته وطموحاته. فهذا الاختبار الذي يحياه طلاّبنا اليوم، مهما كانت نتائجه على الصّعيد الوطني، لن يمرّ مرور الكرام، بل سوف يطبع طلاّبنا دوماً بطابع الرّغبة في التّغيير والثّورة على ما هو موروث أو تقليديّ.
لذلك، أدعوكم أنتم المؤتمنين على تنشئة جيل الغد، لا بل جيل اليوم والسّاعة، الى الاقتداء بكلمة سيّد السّادة يسوع المسيح القائل: “كونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام”، صفتان نحتاجهما اليوم في رسالتنا التربويّة المعاصرة: طلاّبنا يحتاجون حكمتنا، إنهم جيل ثائر، متمرّد أحياناً، تعب من فقدان المعنى لوجوده في مجتمع لم يعطه أبسط حقوقه. جيل يحتاج اليكم اليوم لتنقلوا إليه الحكمة لا المعرفة فقط، والحكمة هي اختباركم الحياتي الذي جعل منكم ما أنتم عليه. كونوا موضوعيّين في نقلكم وديعة الحكمة هذه، لا تجعلوهم صورة عنكم، ولكن علّموهم أن التاريخ لم يبدأ معهم، ولن يكونوا هم خاتمته، إنَّما هم خطوة اضافيّة لوطننا ولبشريّتنا نحو مستقبل نأمل أن يكون أفضل. حكمتكم هي المثل الّذي يحتاجون اليه: إن كانوا اليوم يصرخون في الطرقات، فلأنّهم يحتاجون لمثل وقدوة. شبّاننا فقدوا الأمل بنظامنا، لا يمكننا تسخيف صراخهم “بسقوط النظام” وإن كنّا غير موافقين. إنّهم يريدون التخلّص من نظام متوارث لم يعد يقنعهم. دورنا هو أن نعيد لهم الثّقة، و نساعدهم على التميّيز بين ما هو قيّم في نظامنا الدّيمقراطيّ البرلمانيّ، وفي ما أطلقنا عليه منذ تكوين لبنان “الصّيغة اللبنانيّة”، وما هو سيّء ومعيق لتطوّر مجتمعنا. بحكمتكم وبمثلكم وبأصغائكم أعطوا لطلاّبنا المثل، أعيدوا لهم الثقة، كونوا صوت المنطق في بحر الانفعال والعواطف والحماس والغضب الّذي نعبره. بحكمتكم انظروا الى كلّ واحدة وواحد منهم كابن لكم وابنة، دون أي تمييز، فدعوتكم هي بناء الانسان الحرّ في داخله. علّموهم كيف يميّزون، ويحلّلون، ويختارون، من دون أن تملوا عليهم خياراتكم وآراءكم وأحكامكم.
ولكن كونوا ودعاء أيضاً، وبتواضع أيقنوا أن عند طلاّبكم ما يقولونه لكم، لقد كانوا درساً لنا في المثابرة وفي الرّجاء طيلة الأيام العشر الأخيرة، لقد أعادوا لنا، بمختلف انتماءاتنا وآرائنا، الثّقة بقوّة الشّباب الرّافض فقدان الأمل. اتّضعوا أمام أحلامهم، بحكمتكم ستعلّمونهم أنّهم ليسوا بداية تاريخ الوطن، وبتواضعكم اعلموا أَنَّكُم لستم كتّاب التّاريخ ولا خاتمته. أفسحوا لهم المجال للتّعبير، والنّقاش، بتواضعكم احترموا كراماتهم وآراءهم، فعندهم ما يقولونه لنا، هكذا فقط نعيد لهم الثّقة ونعطيهم المثل الّذي يحتاجون إليه.
دعوتي إلى طلاّبنا، لا بل مسؤولية أأتمنكم عليها، أن تتعالوا على آرائكم الشّخصيّة الضّيّقة، فما من خاسر ورابح اليوم؛ كلّنا رابحون. هذا المشهد الوطنيّ الجامع الّذي رسمتموه مع رفاقكم في الجامعات الأخرى، ما هو إلاّ لقاء وحّد اللبنانيين جميعاً حول قضيّة واحدة، وهو مشهد لم يتكرّر في وطننا منذ ثورة الاستقلال، حين انتفض اللبنانيّون بكلّ طوائفهم، مسيحيّين ومسلمين ودروزًا، مطالبين بانتهاء الانتداب وباستقلال الأمّة. واليوم، في افتتاحنا لمئويّة لبنان الثانيّة، توحّدتم من جديد، لتقولوا إنّ حلم البطريرك الحويّك بلبنان واحد متعدّد هو حلم قابل للحياة. هذه الوحدة اليوم هي أمانة بين أيديكم، وهي بطاقة عبورنا نحو لبنان الغد، لبنان الواحد بتنوّعه، الغنيّ بتعدّديّته، السائر نحو مستقبل مشرق رغم كلّ الصّعوبات، لتبنوا الدّولة المدنيّة المعاصرة، دولة تحقّق آمالكم وتضمن حقّكم بالسعادة والكرامة والحياة. مسؤوليّتكم هي أن تحافظوا على هذا الوعي الوطنيّ الجامع والموحّد، لنسير كلّنا نحو لبنان الرّسالة، فابقوا دوما موحّدين، لئلاّ يضيعَ هذا الإنجاز.
غدُنا أنتم. فليُشرِق بسواعدكم”.
الأب بيار نجم ر.م.م.
رئيس جامعة سيدة اللويزة