كتب محمد وهبة في صحيفة “الاخبار”:
يزداد المشهد تعقيداً. فعلى وقع استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، أعلنت المصارف مواصلة إقفال أبوابها لليوم الـ 11 من دون أفق لفتح الأبواب قريباً، ما أوحى بأن ”الحريق“ الذي بدأ أول يوم إقفال سيتّسع ليطاول حركة التجارة الخارجية، وسط نفاد المخزون السلعي للشركات، ولا سيما المواد الأساسية.
يقول رئيس نقابة أصحاب المطاحن، إن مخزون القمح أصلاً كان قد تقلص بسبب أزمة شحّ الدولارات في السوق وهو لا يكفي لأكثر من 25 يوماً في الحدّ الأقصى ”إذا أخذنا في الاعتبار أن أصحاب المطاحن تمكنّوا من سحب الكميات من مرفأ بيروت، وأن الاستهلاك يزداد كثيراً أيام الأزمات بسبب لجوء المستهلكين إلى التخزين». وبحسب رئيس نقابة تجار مال القبان، ارسلان سنّو، فإنه مع إغلاق أبواب المصارف ”لم يعد بإمكاننا تسديد ثمن الشحنات، ولا التداول بالشيكات المصرفية، ما ينذر بانقطاع الكثير من السلع من السوق». أما بالنسبة إلى الدواء، فقد أعلن وزير الصحة جميل جبق وجود نقص في بعض الكميات والأنواع، فيما أوضح عدد من مستوردي المشتقات النفطية أن المخزون لديهم لا يكفي سوى لمدّة أسبوعين بسبب إغلاق المصارف أبوابها وعدم قدرة المستوردين على فتح اعتمادات للاستيراد.
أسباب هذه الأزمة تتراوح بين ما هو جذري مثل شحّ الدولارات وتحديد مصرف لبنان ”كوتا“ لكل مصرف من الدولارات التي يمكن استعمالها لتغطية التجارة الخارجية (استيراد السلع)، ومنها ما هو آني يتعلق بعدم إمكانية سحب البضائع الموجودة في مرفأ بيروت، ومنها ما يرتبط مباشرة بإغلاق المصارف أبوابها وعدم قدرة الشركات على التداول بالشيكات في ما بينها لتحصيل ثمن المبيعات، وبالتالي التوقف عن تسليم البضائع من المستورد إلى باعة التجزئة.
الأسوأ من ذلك، أن تحديد ”كوتا“ لكل مصرف من الدولارات التي يمكن استعمالها لتغطية التجارة الخارجية (استيراد السلع) سيتحوّل إلى أزمة مزدوجة مع فتح المصارف أبوابها للجمهور، ما يعني أنه سيتوجب على المستوردين شراء الدولارات من الصرافين بأسعار متحركة، بلغت أمس 1790 ليرة مقابل الدولار الواحد (قبل استقالة الحريري)، وبالتالي رفع أسعار السلع لتغطية فرق سعر البضاعة المستوردة بالدولار والمبيعة في السوق المحلية بالليرة اللبنانية. وهذا الأمر يشكل الكثير من السلع مثل السكر والأرز وسائر أنواع الحبوب، وحليب الأطفال، والحفاضات، والمواشي الحية واللحوم المبردة…
هذه الأزمة ليست مستجدة، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يتم تحميلها للتحركات الاحتجاجية التي اندلعت في لبنان منذ 13 يوماً كما حاول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الإيحاء في مقابلته على قناة CNN الأميركية، بل هي ناتجة أصلاً من مشكلة بنيوية في ميزان المدفوعات الذي يعبّر عن صافي حركة دخول وخروج رؤوس الأموال من لبنان. فهذا الميزان سلبي منذ 2011 إلى اليوم، أي أن انسحاب رؤوس الأموال من لبنان متواصل منذ ذلك الوقت، وهو نزف بالدولار في وقت يحتاج فيه لبنان إلى العملة الأجنبية لتمويل تجارته الخارجية (استيراد السلع بشكل أساسي).
وقد انعكس هذا العجز المتواصل في ميزان المدفوعات شحّاً في الدولارات أدّى بشكل من الأشكال إلى نشوء سوقَين لسعر الصرف؛ واحد نظامي بين مصرف لبنان والمصارف بسعر وسطي يبلغ 1507.5 ليرات مقابل الدولار الواحد، وواحد غير نظامي بين الصرافين والشركات والأفراد بسعر متحرك تصاعدي.
هذه الازدواجية خلقت مشكلة فروقات سعر الصرف عند كل المستوردين، وإنما ظهرت بشكل واضح لدى مستوردي السلع التي تحدّد الدولة سعر مبيعها للعموم مثل المشتقات النفطية والدواء والقمح. وقد عولج جزء من المشكلة الذي يتعلق بمخزون مستوردي المشتقات النفطية واتفق على تمويله بالدولارات اللازمة من مصرف لبنان عبر المصارف، فيما بقي الجزء المتعلق بالمستوردين الذين يشترون بضائعهم من الخارج عبر التحويلات المباشرة (المشتقات النفطية تستورد عبر الاعتمادات المصرفية).
ما استجد على هذه الأزمة هو الشلل الذي أصاب مرافق الدولة والطرقات مع بدء التحركات الاحتجاجية. فالتجار يدّعون أنه لم يعد بإمكانهم إخراج البضائع من مرفأ بيروت، وأن توصيل البضائع إلى السوبر ماركت وباعة التجزئة بات متعذراً في كثير من المناطق. كذلك استجدّ أمر آخر يتعلق بإقفال المصارف واقتصار عملياتها على فتح الصرافات الآلية لتسديد الرواتب وإجراء عمليات بسيطة يمكن إجراؤها خلف الأبواب المغلقة.
إغلاق أبواب المصارف أمام المودعين هو شكل من أشكال الـ«كابيتال كونترول»، أو القيود على السحب والتحويل. وقد ناقش مجلس إدارة جمعية المصارف هذا الأمر على مدى الأيام الماضية، وآخرها كان أمس في اجتماع موسّع في مقر «فرنسبنك» خلص إلى نتيجة واحدة: الاستمرار في إغلاق أبواب المصارف. وبحسب مصادر مصرفية شاركت في الاجتماع، فقد اتفق على الآتي: أن تدفع كل الاعتمادات المفتوحة سابقاً للاستيراد، وأن يتم التحضير ليوم فتح الأبواب عبر البحث عن طريقة لتعزيز السيولة بالتنسيق مع مصرف لبنان، والاستمرار في تأمين دفع الرواتب عبر الصرافات الآلية.
في هذا الوقت، تبلّغت بعض الشركات من عدد من المصارف وقف التسهيلات المكشوفة، أي الاستدانة ضمن سقف معين لتمويل المصاريف الجارية. كما عمدت بعض المصارف إلى خفض سقف السحوبات عبر البطاقات المصرفية، علماً بأن قسماً كبيراً من المستهلكين كان يدفع قيمة مشترياته عبر هذه البطاقات في مختلف نقاط البيع.
كذلك، برزت مشكلة أساسية تتعلق بالودائع التي تستحق خلال فترة إقفال المصارف: فهل سيتم تجديدها تلقائياً كما اعتادت المصارف القيام به في الأيام العادية، أو سيتم نقلها إلى حسابات جارية لتمكين أصحابها من سحبها، إذا طلبوا ذلك، يوم فتح الأبواب. فمن الواضح أن الزبائن قد لا يوافقون على تجديد تجميد ودائعهم في ظل هذه الأزمة، وربما يرغبون في سحبها نقداً أو سحبها إلى الخارج، لكن ليس متاحاً لهم إبلاغ المصرف بقرارهم في ظل الإغلاق.
وانطلاقاً من استقالة الحريري ”الغامضة“ نسبياً، فإن المسألة الأساسية باتت متعلقة بكيفية إدارة هذه الأزمة على جبهة السلع الاستهلاكية المتصلة عضوياً بفتح أبواب المصارف.