كتب حسام عيتاني في صحيفة الشرق الأوسط:
لم يهتف المتظاهرون ضد أي حزب، لا في السلطة ولا خارجها، في اليومين الأولين من المظاهرات في لبنان مساء الخميس 17 أكتوبر (تشرين الأول). اقتصرت الهتافات والشعارات في اليومين الأولين ضد رموز السلطة التنفيذية والتشريعية والأشخاص الأكثر انغماساً في الفساد، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الطائفية والحزبية. كانت الصرخات التي ارتفعت «وطنية» بهذا المعنى العابر للحساسيات الفئوية.
المفاجأة وقعت يوم السبت 19 أكتوبر، عندما ظهر الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله على شاشة التلفزة وحظر على المتظاهرين إسقاط العهد (رئيس الجمهورية) والحكومة في الشارع، واضعاً نفسه في موضع الوصيّ على الدولة التي كان يكتفي حتى ذلك الحين بإدارة مفاصلها الأمنية والسياسية من وراء الستار، ومحدداً في الوقت ذاته المدى الذي يجوز لانتفاضة الشباب أن تبلغه. دخول نصر الله، زعيم الحزب الأكبر والأقوى والأكثر تنظيماً والقوة المسلحة الوحيدة التي يُحسب لها حساب خارج إطار المؤسسات العسكرية الشرعية، رفع تحدياً إضافياً أمام المنتفضين.
الورقة الإصلاحية التي قدمها رئيس الوزراء سعد الحريري وتضمنت عدداً من الوعود غير القابلة للتنفيذ، في رأي المعترضين عليها، أخفقت في ثني الشباب اللبنانيين عن متابعة احتجاجاتهم وتمسكهم باستقالة الحكومة الحالية ومجيء حكومة بديلة قادرة على الخروج من الوضع المعيشي والاقتصادي المزري الذي أوصلت الحكومات المتعاقبة البلد إليه. ثم ألقى رئيس الجمهورية ميشال عون كلمته يوم الخميس 24 أكتوبر، وقد خلت من أي مضمون ملموس ودارت في أجواء تفهم السلطة لمطالب المحتجين ودعتهم إلى الحوار. وفشلت أيضاً في ترك صدى إيجابي بين المتظاهرين الذين تصاعد الشعور بينهم أن دوائر الحكم، بمختلف مستوياتها، تمارس خديعة هدفها إدخال الانتفاضة في حال من اليأس وافتعال انشقاقات فيها من خلال الطلب إلى المنتفضين تشكيل وفد لإجراء حوار مع رئيس الجمهورية الذي أحال كل الحلول إلى المؤسسات القائمة وهي، بالضبط، المشكو من فسادها وانعدام جديتها وفاعليتها.
في يوم الجمعة التالي، ظهر نصر الله من جديد في كلمة استمرت ساعة كاملة أعاد فيها تأكيد تفهم مطالب المتظاهرين واشتكى مثلهم من الفساد في مؤسسات الدولة. لكن كلمته هدفت إلى زرع الشك في الانتفاضة من خلال التساؤل عن «القادة السريين» الذين يحركون الشارع ويقودون الحراك. والطلب إلى المتظاهرين الكشف عن أسماء القادة المتخيلين الذين اتهمهم نصر الله بتلقي التمويل من السفارات الأجنبية. وساق عدداً من الأعمال، أكثرها من بنات خياله وخيال أجهزته الأمنية، عن نصب المتظاهرين حواجز تطلب من المواطنين إبراز هوياتهم وما يشبهها من الممارسات التي تصبّ في خانة استعادة أجواء الحرب الأهلية.
المهم أن نصر الله شدد في كلمته الثانية على سدّ باب التغيير الحكومي وإمكان حصول أي إصلاح ذي معنى. وكان مشهد إرسال «حزب الله» المئات من مؤيديه على الدراجات النارية يهتفون بشعارات تحيّي سعد الحريري من المشاهد السوريالية في حياة اللبنانيين الذين عايشوا وقائع العداء المستحكم السابق بين تيار «المستقبل» والحزب الذي تتهم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قياديين منه باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، والد رئيس الوزراء الحالي.
رفعت كلمة نصر الله التوتر العام خصوصاً أنها جاءت بعد صدامات افتعلها مناصروه مع المتظاهرين السلميين في بيروت وبعد هجوم عناصر الحزب على المحتجين في مدينة النبطية وفرضهم ما يشبه الحصار على المنتفضين في مدينة صور. وسرعان ما تحولت اتهامات نصر الله إلى حملة إعلامية ترمي إلى أبلسة الانتفاضة وإلقاء اتهامات ما أنزل الله بها من سلطان، على المتظاهرين وتشكيل قيادات وهمية لهم ووضعهم في مصافّ العملاء والخونة.
المدهش في الموضوع أن نصر الله هو من وضع حزبه و«جمهوره» و«شارعه» في مواجهة الانتفاضة وأطلق العنان «للمحللين» التلفزيونيين والصحف المؤتمرة بأمره لاختراع أحداث وأسماء وأعمال تذكّر بشيطنة الثورة السورية وإلصاق تهم تمتد من الخضوع لإدارة الاستخبارات الأميركية إلى الإرهاب التكفيري بها، وبالأجواء التي ينشئها أنصار إيران ضد المحتجين على الدولة العراقية الفاشلة والمنهوبة. وليس سراً أن إبقاء لبنان بوابة خلفية للتهرب من العقوبات المفروضة على النظام السوري وورقة ضغط في البرنامج النووي الإيراني، يزيد في الأهمية على هموم اللبنانيين اليومية وانكسار قدرتهم على تلبية جشع الفئة الحاكمة من جهة، والاستمرار في تأمين حياة كريمة بالحد الأدنى لهم ولأبنائهم، من جهة أخرى.
ولا يقل ما يقوم به تحالف المصالح العميقة الذي يضم «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» وبقايا أتباع النظام السوري، عن ثورة مضادة تهدف إلى إغراق الانتفاضة اللبنانية التي تغذّيها معاناة ملايين الفقراء والمهمشين والشباب، في انقسام طائفي جديد وفي التهويل بتدمير البلد إذا لم يعد الجميع إلى الخضوع لسيادة الفساد والعبث وانسداد آفاق المستقبل.