كتبت لينا فخر الدين في صحيفة “الجمهورية”:
تحوّلت ساحات وسط بيروت وجسر الرينغ ساحة حرب. بدءاً من الجسر، بدأت «موقعة العصي والحجارة» حيث استطاع شبّان غاضبون يتّهمون المتظاهرين بشَلّ البلد بقرارٍ خارجي، تكسير الخيَم وضرب المتظاهرين بالعصي والحجارة… وحتى السكاكين.
تجلس ديما داخل خيمة نصبتها مع أصدقائها منذ أيّام في ساحة الشهداء. يُتابع هؤلاء ما يحدث عند جسر الرينغ بعدما اعتدى عدد من الشبّان على المتظاهرين هناك، لاتّهامهم بأنّهم «يقفلون الطرق ويأخذون خوّات ويعطّلون البلد بأوامر سياسية خارجية». تُبدي الشابّة العشرينية خوفها من سياسة السلطة التي باتت واضحة: «الشعب ضد الشعب» لإخماد هذه الانتفاضة.
لم يخطر لديما أن يتجرأ الشبّان الغاضبون من الدخول إلى الساحة. يجري نقاش مطوّل بين المتظاهرين عن إمكانية التعدّي عليهم، يحسمه أحد الشبان بالقول: «السيّد (حسن نصرالله) قال في خطابه الأخير أن يبقى المتظاهرون في الساحات، وبالتالي فإنّ «حزب الله» منزعج من إقفال الطرق وليس من بقاء المتظاهرين هنا».
الوضع متوتّر. يحاول بعض المتظاهرين التوجّه إلى جسر الرينغ لتقديم الدعم المعنوي لرفاقهم، فيما يفضّل آخرون البقاء في الساحات لمتابعة الأخبار عبر هواتفهم.
دقائق قليلة وينقلب المشهد رأساً على عقب. شبّانٌ غاضبون يركضون في اتجاه ساحة الشهداء. بعضهم ملثّم، وآخرون خلعوا عنهم كنزاتهم. ترمي ديما وأصدقاؤها ما في أيديهم، ويهرب كل منهم في اتّجاه. بعضهم يذهب الى الشارع خلف جريدة «النهار»، فيما يتوجه آخرون نحو باحة «مسجد محمّد الأمين».
يرفع المتظاهرون أيديهم تعبيراً على سلميّتهم، إلّا أنّ المهاجمين يستمرون غير آبهين بذلك. أصواتهم مرتفعة وهم يردّدون عبارات دينيّة، وأخرى تدافع عن نصرالله والرئيس نبيه بري، بالإضافة إلى الشتائم في حق المتظاهرين: «اللي مش مع السيّد يفِل من هون يا…»، «نحنا الثوار الحقيقيين يا…».
يبدأ هؤلاء بتكسير الخيم، يسحب أحدهم الحديد الذي يثبّت الخيمة محاولاً ضرب متظاهر يردّ عليه: «نحن ندافع عن حقوقكم ولسنا ضدّكم»، يحاول شاب آخر تهدئته، وهو يقول: «نحن لم نأتِ لضربهم، بل لتربيتهم». لم يكمل الشاب الغاضب كلمته حتى فرّ المتظاهر في اتجاه الصيفي.
في حين لم يسلم شاب آخر يهرب في اتجاه شارع العازاريّة من العصيّ التي ضُرب بها. ويصرخ للقوى الأمنيّة البعيدة نسبياً عن المكان من دون أن يلقى رداً. حتى الصحافة، نالت نصيبها من الحجارة التي صارت تُرمى بشكل عشوائي في الساحات.
يسير شاب في اتّجاه المنصّة. يمشي مختالاً في الساحة صارخاً «اللي بيجيب سيرة السيّد ودولة الرئيس بري…»، موجّهاً سيلاً من الشتائم إلى سمير جعجع وجماعته الذي يقول إنهم موجودون هنا.
ينتشِل أحد الملثّمين هاتفه من جيبه، ويأخذ صورة لموجودات إحدى الخيَم. ينظر إلى رفيقه ذو الجسد الضخم، ويقول له: «شوف شو لقيت هون. سيمو وحشيش ودعارة». يردّ عليه الثاني بالقول: «عاملين حالن ثوّار». إذاً، يُنَصِّب هؤلاء أنفسهم كهيئة «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر»، من خلال اعتداءات بالتكسير والضرب ورشق الحجارة.
هي أقلّ من 10 دقائق كانت كفيلة بأن تتحوّل ساحة الشهداء ساحة حرب حقيقيّة. يبتعد المتظاهرون. يكسّر الغاضبون كلّ ما تراه أعينهم. يُشعل أحدهم القدّاحة ويضرم النار في إحدى الخيم المواجهة لـ«مسجد الأمين»، فيما يشعل آخرون النار في القبضة المنصوبة على أحد الأعمدة وتُمثّل قبضة الثورة.
النار تشتعل، ويحاول بعض أفراد قوى الأمن الدّاخلي إطفاءها. هؤلاء يراقبون ما يحصل من دون تدخّل فعلي. ويحاول أحد أفراد الأمن حماية إحدى المتظاهرات، فيقترب منه أحد الشبّان الغاضبين: «إنتو جاييلكن الدّور».
لا أحد يعرف ماذا يحصل. حفلة جنون. صراخ وشتائم وبكاء. تبكي إحدى المتظاهرات بحرقة: «عم يحرقوا ثورتنا»، فيردّ عليها آخر: «سنعيدها كما كانت. لن نردّ عليهم الآن لأنّنا لسنا بوارد إشعال حرب بالوقوف في وجه الشعب الذي نحن منه».
تنتهي «موقعة العصي والحجارة» في ساحة رياض الصلح خلال دقائق. أصلاً، لم يعد هناك ما يمكن تكسيره: أكل مَرمي في الأرض… خيَم محروقة وأخرى محطّمة إلى أجزاء… كتب وأغراض شخصيّة في كلّ مكان…
رياض الصلح
أمّا في رياض الصلح فيبدو المشهد أصعب: عشرات المتظاهرين العالقين بين الحواجز الأمنيّة التي أقامتها القوى الأمنيّة وبين المهاجمين الذين يحمل أحدهم السكّين في يده… ملثّمون في كلّ مكان يصرخون بأعلى أصواتهم: «لبيّك يا حسين… لبيّك يا نصرالله». لا شيء يمكن أن يقوله المتظاهرون، الذين احتمى بعضهم بمبنى مواجه للسراي الحكومي ويضمّ عدداً من مكاتب وسائل إعلام عربيّة. ومن لم يستطع الوصول إلى المبنى وقف بجانب كاميرا «الميادين» منعاً للتعرّض لهم.
يتكرّر المشهد هنا أيضاً: القوى الأمنيّة تحمل الأدرع الواقية من دون أن تتدخّل بجديّة. ينفرد المهاجمون بالاعتداء على بعض المتظاهرين الذين يهربون في اتجاه شارع المصارف. يقوم أحد الملثّمين بتوجيه لكمة لمتظاهرة كانت تقف خلف آلية تعود لـ«إطفاء بيروت» المركونة في المكان، من دون أن تتحرّك لإطفاء الحرائق التي اندلعت في أكثر من خيمة منصوبة بالقرب من تمثال رياض الصلح.
أصوات سيارات الإسعاف تتداخل بأصوات الصراخ الآتي من كلّ حدب وصوب، قبل أن يقطعه صوت الرصاص المطاطي الذي أطلقته قوّة مكافحة الشغب. ربع ساعة من الرعب الحقيقي قبل أن يعود المهاجمون من حيث أتوا، بعدما دمّروا الساحة عن بكرة أبيها.
تهدأ الأوضاع، ويحاول المتظاهرون الخروج من مخائبهم للاطمئنان الى رفاقهم والأضرار في خيَمهم. سيارات الصليب الأحمر تدخل لنقل بعض الجرحى.
يبكي أحد المتظاهرين. يعود الرجل الأربعيني إلى ما حصل في مصر منذ سنوات، عندما تدخّلت السلطة عبر «البَلطجيّة» التابعين لها لفَضّ تظاهرة في ساحة التحرير من خلال السكاكين والعصي وامتطاء بعضهم الجمال والبغال. بالنسبة له، لا يختلف المشهد كثيراً عن «موقعة الجمل» عام 2011.
وعلى رغم ذلك، يحاول الرّجل إصلاح ما خَلّفه المهاجمون. يجتمع آخرون يتفقّدون الأضرار، لافتين إلى أنّ بعض أغراضهم سُرقت قبل أن يردّدوا: «سنعود أقوى ممّا كنّا… الفارق بيننا وبينهم أنّهم يأتمرون بأمرٍ من زعيمهم أمّا نحن فأحرار».