كتب رضوان مرتضى في صحيفة “الاخبار”:
انفرط عقد التفاهم بين النائب العام في جبل لبنان القاضية غادة عون والنائب العام التمييزي غسان عويدات. بلغ التصعيد حدّاً غير مسبوق تمثّل باتخاذ عويدات تدبيراً عُمِّم على الأجهزة الأمنية قضى بعدم مخاطبة عون بعد إصدار عقوبة مسلكية في حقها. وفيما اعتبرت عون أن تعميمات مدّعي عام التمييز تُكبّلها وتشلُّ عملها، رأى الأخير أنّ النائب العام تخالف القانون والأصول والسياسة الجنائية وتتجاوز صلاحيتها. فهل انعكس الانقسام السياسي بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري على الواقع القضائي؟
منصب النائب العام التمييزي من حصة رئيس الحكومة سعد الحريري، فيما منصب النائب العام في جبل لبنان من حصة رئيس الجمهورية ميشال عون. المركزان موزّعان تبعاً للمحاصصة الطائفية المعتمدة في لبنان، إلا أنّ التراتبية في النيابات العامة تفرض قانوناً رجوع النواب العامين في المناطق إلى النائب العام التمييزي بوصفهم معاونيه ووكلاءه. مع انفراط التفاهم بين الرئيسين عون والحريري باستقالة الحكومة، خرج خلاف عويدات – عون إلى الواجهة، واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، ووُزِّعت الأخبار على وسائل الإعلام لتشي بأنّ الخلاف ليس سوى نتيجة للواقع المأزوم. فما هي الحقيقة؟
هل تُحارَب القاضية عون لأنّها كانت رأس حربة في ملف الفساد القضائي؟ وهل أشعل ادعاؤها على الرئيس نجيب ميقاتي في ملف القروض السكنية غضب القاضي عويدات؟ وما صحة أنه تمّ بإيعاز من رئاسة الجمهورية؟ وهل صحيح أنّ هناك كباشاً قائماً بين الحريري وعون مسرحه القضاء، تمثّل بتعميم لرئيس الحكومة على الإدارات العامة في 26 أيلول طلب فيه احترام أصول التخاطب في مراسلة قضاة النيابات العامة من خلال النائب العام لدى محكمة التمييز حصراً. وقد جاء ذلك بعد تعميم المدعي العام التمييزي للنيابات العامة بوجوب إعلامه مسبقاً بكل إجراء قضائي، وهو التعميم نفسه الذي اتهمت عون بأنها ضربت به عرض الحائط لحسابات سياسية مرتبطة بالانقسام الحاصل، رغم أن تعميم مدعي عام التمييز أتى قبل أيام من تعميم رئيس الحكومة، أي سبقه ولم يتبعه.
لا يختلف اثنان من متابعي الملف القضائي أنّ عون ضربت قضاة محسوبين على التيار الوطني الحر في ملف مكافحة الفساد القضائي، لعلّ أبرزهما مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بيتر جرمانوس وقاضي التحقيق في جبل لبنان نقولا منصور. وقد تسبب ذلك في توتّر علاقتها مع قسم كبير من العونيين، رغم حفاظها على علاقة مميزة مع رئيس الجمهورية. وقد أدى ذلك إلى تنحيتها من الفوز بمركز وُعِدت به والتهديد بإطاحتها من مركزها الحالي في التشكيلات المقبلة لاتهامها بشن حرب على «قضاة العهد». غير أن كل ذلك لا علاقة له بالمعركة بينها وبين عويدات. إذ أن لذلك مساراً مختلفاً بدأ نهاية أيلول الفائت مع تعميم مدعي عام التمييز.
إذ وقع كباشٌ إعلامي يومها جرّاء التعميم الذي عدّته عون مصادرة لصلاحيتها فيما رأى فيه عويدات تصحيحاً لخلل في انتظام العمل القضائي. هدأ الكباش مع الاجتماع الذي عقده عويدات للنيابات العامة في المناطق وانتهى بعتاب ومصالحة مع عون. هدأت الجبهة لأسابيع ما خلا توتّرات صغيرة على صعيد أذونات الملاحقة، قبل أن تشتعل مجدداً مع ادعائها على ميقاتي في ملف القروض السكنية. تجدد الكباش عندما سُرِّب أن عويدات يتّجه لحفظ الملف كأنما كان يُصوّب إليه الاتهام بأنه يحمي الفاسد. وترافق ذلك مع جدل يتعلق بأصل الادعاء وقانونيته لكون عون ادعت أمام قاضي التحقيق في بيروت. الأمر الذي عده عدد من القضاة مخالفة قانونية لكونه لا يحق لها مخاطبة قاضي التحقيق في بيروت إلا عبر النائب العام الاستئنافي في بيروت. فيما تُصرّ عون على قانونية إجرائها.
وفي هذا السياق، تكشف مصادر قضائية أنّ ملف القروض السكنية كان قد حفظه النائب العام المالي علي ابراهيم. فقام وكيل ميقاتي بأخذ صورة عنه للادعاء أمام النيابة العامة في جبل لبنان على الإعلاميين الذين أثاروا القضية بجرم القدح والذم. وبحسب المصادر، عوضاً عن ردّ الشكوى، عاودت عون الادعاء على ميقاتي رغم وجود حصانة دستورية، مع ما يعني ذلك من أنّ قانون الإثراء غير المشروع لا يرفع الحصانة الدستورية. هنا يتهم القضاة عون بأنها أرادت أن تُسجّل نقطة أمام الرأي العام بمحاربة الفساد ولو بمخالفة الأصول. وهذا ما لم تنفه عون التي قالت إنها تأثرت بالمتظاهرين المطالبين بمكافحة الفساد، مع إصرارها على قانونية ادعائها. وهي خرجت في مؤتمر صحافي للحديث عن تقصير القضاء. وهذا أمرٌ واقع، لكنها حُكماً كانت ترتكب خطأ بالخروج عن موجب التحفظ القضائي ومخالفة تعليمات رئيسها. لم يُحرك عويدات ساكناً إزاء المؤتمر الصحافي الذي أحدث ضجة كبيرة في أوساط الرأي العام. وكان تصريحها أول من أمس لموقع العهد الإلكتروني بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فأصدر عويدات تعميماً شفهياً للأجهزة الأمنية بعدم مخاطبتها والعودة إلى المحامي العام المناوب في جبل لبنان أو النائب العام التمييزي في القضايا المهمة. وأتبعه أمس بتعميم خطي مرفق بكتاب تنبيه للقاضية يشير فيه إلى تقصيرها في أداء واجبها وضربها بعرض الحائط القواعد القانونية والمناقبية في تعاطيها مع رئيسها وتعديها على صلاحيات النائب العام التمييزي. عدّد عويدات مخالفات عون ما عده تقصيراً فادحاً في تأدية واجبها وأحال نسخاً من كتابه إلى هيئة التفتيش القضائي ووزير العدل ومجلس القضاء الأعلى. غير أن القاضية عون رأت أن رئيسها يتجاوز صلاحياته ويصادر صلاحياتها، فأصدرت تعميماً معاكساً للأجهزة الأمنية تطلب فيه مخابرتها حصراً في كل القضايا الواقعة في نطاقها في جبل لبنان.
وفي هذا السياق، اعتبر المحامي المؤسس لـ«المفكرة القانونية» نزار صاغية أنه لا يحقّ للمدعي العام التمييزي اتخاذ هكذا إجراء، إنما ذلك من صلاحية هيئة التفتيش التي ترفع توصية لوزير العدل بوقفها عن العمل إذا ثبت حصول المخالفة. ويرى صاغية أنّ حصر القرارات المهمة بيد مدعي عام التمييز يحدّ من مكافحة الفساد، علما أن عون كانت تعاني من وقف ملفات الفساد. غير أن مراجع قضائية رأت أنّ مدعي عام التمييز هو رأس النيابات العامة ولديه سلطة على كل النيابات العامة. ورأت المراجع نفسها أن عمل القضاة في النيابات العامة محكوم بمنطق التراتبية بعيداً عن استقلالية القضاء. وانطلاقاً من ذلك، ترى هذه المراجع أنه يتوجب على عون إبلاغ رئيسها بالجرائم المهمة قبل اتخاذ أي قرار. ولا يحقّ لها التصرّف كما لو أنّ مدعي عام التمييز غير موجود. في المقابل، تؤكد عون أنها تتبع تسلسلياً للقاضي عويدات، مشيرة إلى أن له الحق بالاطلاع على الجرائم المهمة، وليس الرجوع له، تبعاً للمادة ١٦ من أصول المحاكمات الجزائية، «إلا أنّي لم أرَ أن ملف ميقاتي يدخل في إطار الجرائم المهمة لكونه لا يمسّ الأمن القومي».
إزاء ما تقدم، ومع إعلان وزير العدل أن الملف شأن قضائي داخلي، رغم أنه لا يملك زمام الأمر، مع عدم تدخل مجلس القضاء الأعلى رغم وجود أزمة تحديد صلاحيات، وعدم إحالة الملف إلى هيئة التفتيش، سيبقى الكباش قائماً إلى حين تدخل رئيس الحمهورية بوصفه حامي السلطات وراعي انتظام عمل المؤسسات لإنهاء الأزمة استناداً الى العلاقة الخاصة التي تربطه بالقاضيين.