تشهد الساحة اللبنانية منذ اسبوعَين، فِعلاً عاصِفاً لجماهير الناس، أدّى الى تَحَوّلٍ حاسمٍ في
الحياةِ السياسيّة عندنا . لقد قرّر الشّعب إنهاءَ شروط مُذِلَّةٍ فرضَها عليه الحاكمون ، فباتت
الثورة حتميّةً، بعد أن فشلت عمليّةُ التّغيير عن طريق الإصلاحات . وقد توصّلَ الشّعب
الى قناعةِ أنّ الإصلاحات يمكنُ أن تلطّفَ الهيمنةَ والظّلمَ لا أن تلغيَهما ، وأن تضبطَ ” ملكيّة ” النّظام المطلقة، لا أن تُحدِثَ فيها تبَدّلا جذريّا . من هنا ، كان لا بدّ من قاطرة تدفعُ بالمجتمع الى تقدّمٍ حقيقيٍّ تاريخي ، هي الثورة .
الثورة الشعبية ليست مسألة رغبة أو خيار فحسب ، فاللبنانيّون ليسوا ديماغوجيّين باعوا
أنفسهم للفوضى ، لكنّهم جعلوا ثورتهم واقعاً أكيداً وحدثاً محتّماً ، بغضّ النّظر عن
معارضة الخصوم إيّاها . وقد بلغ مستوى الإندماج بينهم وبين حراكهم الثّوري حدّا لم
تشهده ثورات أخرى في التاريخ . أوليس غريبا أو مدهشا أن ينزل اللبنانيّون الى السّاحات
يتظاهرون بالرّقص والغناء ، وهما علاماتُ الفرح ، رَدّاً على ثقافةِ الموت عديمةِ الجَدوى ؟
يجزم أركان الدولة بأنّ كلفة الثورة سوف تكون بالغة الإرتفاع على مستوى خسائر الوطن
في الإقتصاد وارتدادِ هذه الخسائر على الناس، لذلك يعتبر هؤلاء أنّ الثورة هي ذات أفق فارغ، لكنّهم ينسون أنّ الخسائر الناجمة عن سوء استعمالهم السلطة قد أدّى الى الفقر وكَمِّ الأفواه والعقول ، والرضى القسري بالنمطيّة ، والتجهيل والظّلم والإنتكاس الإنساني ، ونحر الحقوق والحريّات السياسية ، ونهب مُقَدَّرات الدولة ، وكأنّ ذلك من باب لزوميّات الحُكم وعدّته .
لقد اعتقد أركانُ الحُكمِ، ومَنْ خلفَهم مِن وراءِ الخريطة، مُخطِئين بأنّ الثورة اندلعت بحركة اصطناعيّة قام بها متآمرون إرهابيّون ، ولم يلاحظوا أنّ التناقضات المتفاقمة بين الوعود وإنجازِها قد بلغت مدىّ نَخَرَ مصداقيّتَهم على مستوى تعزيز دور النسيج المدني في القرار الوطني ، وتعميم رفاهيّة اجتماعيّة واقتصاديّة تقلّص الهوّة بين الطبقات ، وتحجيم سلطان المحتكرين و”نبلاء البلاط ” ذي الكلفة المدمّرة المتنامية . لقد مزّقت هذه التناقضات التي أرساها النظام الكابح لآمال الناس فرصة الحلّ، وأفسحت في المجال للتمرّد والثورة .
كما ظنّ بعضُهم مُخطئاً، بأنّ مواجهة الحركة الشعبيّة بالعنفِ ، يمكن أن تؤمّنَ له نَصراً مُبيناً بتوجيه ضربة موجعة لِمنْ أسماهم قادةَ الثورة المُستَتِرين في الداخل والخارج، أو هكذا توهّمهم. ولمّا لم يستطعِ الوصولَ الى مبتغاه بواسطةِ الجيش والقوى الأمنية، حرّك جهاز قمعه لإنجاز ما يُشبِهُ التدميرَ النوعيّ في بنية الحراك الجماهيري، بإعطاء الأولويّة للوحشيّة المرعبة التي من شأنها ، برأيه ، تحطيمَ التزاوج بين الشعب والنِّضال. وكأنّه لم يقرأ ” لينين ” الذي أكّدَ على أنّ الوضعَ الثوريَّ ينشأ ” عندما يفقدُ مَنْ هم فوق قدرةَ الحكمِ بشكلٍ عاديّ ، وعندما يكفُّ مَنْ هم تحت عن الخضوعِ للحُكمِ كَما مِنْ قَبل ” .