كتب جنى جبّور في صحيفة “نداء الوطن”:
لم يكن غريبا ان يكون الشباب اللبناني من تلامذة مدارس وطلاب جامعات، عصب انتفاضة لبنان. كثافة مشاركة هذه الفئة في قطع الطرقات والثورة في شارع، لم تأت عبثا، فشباب لبنان قرف من وضع بلده، ومن مشكلة البطالة وسئم الانتظار على باب السفارات للبحث عن بلد غريب يأويه ويؤمن له مستقبله. ففي أيام الحرب، خسر لبنان خيرة شبابه في الخارج، فهل سيستمر بخسارتهم حتى في السلم؟
في العام 1994، غادرت سمر لبنان وكان عمرها سبعة عشر عاماً، هرباً من الأوضاع السياسية والامنية في تلك الفترة المشؤومة. اختارت كندا ملجأ لها، الّا أنّ رحلتها لم تكن بهذه السهولة. تقول سمر “إخترت كندا لسببين؛ الاول لأنّ اخوتي كانوا قد سبقوني الى كندا، هرباً من الحرب أيضاً. والثاني، بسبب الـ”Projet libanais” التي نظمته كندا في فترة الثمانينات، وارتكز على قبول اللبنانيين الهاربين من الظروف الامنية الصعبة المسيطرة على لبنان آنذاك. وبالتالي كان يتم قبول كل لبناني تطأ قدماه الاراضي الكندية بغض النظر عن جواز سفره الشرعي أو غير الشرعي، حتّى أنّ البعض كان يعمد الى تمزيق جوازه بمجرد الوصول الى المطار، قاطعاً بتصرفه هذا،خط العودة الى الوراء، وبالفعل كانت الحكومة الكندية تفتح له أبوابها، وتؤمن له المأوى، والمدارس للاولاد، وكل ما يحتاجه. الّا أنّ هذا المشروع لم يدم طويلاً ولا سيما بعد تمني البطريرك مار نصر الله بطرس صفير وقف العمل به بسبب كثافة هجرة المسيحيين”.
لم يكن يوجد سفارة كندية على الاراضي اللبنانية مطلع التسعينات وكان يتوجب على الراغب بالحصول على فيزا التوجه الى السفارة الكندية في سوريا، على ان تنجز المقابلة لاحقاً في لبنان. الّا أنّه لم يكن باستطاعة سمر ضمان عودتها بسلام من بلاد الشام. وتكمل حديثها “أذكر أنّ الـ”فيزا” كلفت أخي نحو 12 ألف دولار، فاستدان المبلغ واستمر في تقسيطه مدّة 5 سنوات أعقبت وصوله الى كندا. وبالفعل تمكن أحدهم من تأمين فيزا لي من السفارة في سوريا، وطبعاً “كل شي بسعره”، وتحضرت للمقابلة في لبنان. لا يمكن وصف مدى الامل الذي زرعته في نفسي هذه المقابلة… كانت باب أملي الوحيد للبقاء على قيد الحياة… الّا أنني رُفضت. قررت عدم الاستسلام، والمحاولة مراراً وتكراراً. لم يكن الوقت لصالحي، وكل ثانية كانت تهدد حياتي. قدمت طلب فيزا من جديد، وذهبت مجدداً، لم يكن الامر بهذه السهولة، ولكني قُبلت هذه المرّة. أتذكر شكل القنصل وملامح وجهه حتّى هذه اللحظة، وخصوصاً عندما سألني “?Promis tu vas retourner”، فأجبته “Promis”. كنت على ثقة اني لن أعود، وابتسامة القنصل وقتها، جعلتني ادرك أنّه على علم بأن وعدي كاذب”.
“يلّي بيصير ع جماعتي بيصير عليّي”وصلت سمر الى كندا واستقبلها اخوتها. كان وضع اللبنانيين صعباً جدّاً، ولا سيما أنّ كثراً منهم من دون أوراق، ويهربون من محاولة تسوية وضعهم، خوفاً من رفضهم واعادتهم الى لبنان من مبدأ أنّ الحرب اللبنانية انتهت. تكمل سمر قصتها “لم تكن السلطات الكندية تعلم بالتنكيل الذي مارسه الاحتلال السوري بحق شبابنا. مشاهد التعذيب التي كنت اتخايلها في رأسي كانت تؤرقني، ما أدخلني في دوامة التفكير بالعودة الى لبنان “ف يلي بصير ع جماعتي بصير عليي”. لم يوافقني احد على قراري بالعودة، وكان الجميع يحفزني على البقاء والعمل على تسوية اوراقي في كندا. وهكذا صار، توجهت الى المكان المخصص، وما زلت اتذكره جيدّاً، إنه شارع “10 Rue Saint-Antoine 10″. طلب مني تعبئة بعض الاوراق، وكنت أجهل طريقة الانتهاء منها، فاشتريت قاموساً ليساعدني في هذه المهمة. لم أنَم ليومين كاملين لأنهي الأوراق. لم أكذب في أي معلومة، جاوبت بصدق على كل الأسئلة… وهذه السطور التي كنت اترجمها، كانت أملي الوحيد للعيش بسلام. في المقابل، أعطتني السلطات الكندية سلسلة اسماء محامين لاختار واحداً منهم على حسابها الخاص، لمساعدتي بما أنني لاجئة، عاطلة عن العمل. الّا أنّه كان علي تسديد مبلغ 400$ ثمن معاملات الاوراق. ولكن من أين لي تأمين الـ400$؟ شاءت الصدف، أنّ يكون منزل المحامية التي اخترتها قرب منزل أختي، وكانت بحاجة الى جليسة أطفال لولديها، فاتفقنا على ان أهتم بهما خلال النهار، مقابل تسوية أوراقي. لم أكن أعرف أنهم يدفعون 14$ في الساعة للـ”Babysitter”، ما جعلني اسدد الـ400$ لها خلال الأسبوع الاول، واستمريت في هذا العمل لأشهر عدّة. وفي هذه الفترة، كنت أندرج تحت برنامج اللجوء، إثر ذلك ارسلت لي الحكومة 240$ في نهاية الشهر. لم أفهم لماذا؟ لماذا أعطتني الدولة المال؟ ففسروا لي أنّ الحكومة مسؤولة عني في هذه الفترة، فبدأت بالضحك ثم البكاء من دون سبب، فأنا لست كندية ولم اعمل في كندا، أنا حتّى لا أعرف اسم عاصمتها، ورغم ذلك، أخذت الدولة على عاتقها مساعدتي، بينما دولة البلد الذي كنت سأفديه بروحي، لم تفعل شيئاً… لا بل فعلت ما هو اسوأ من ذلك”. وتتابع “للمرة الاولى شعرت انني انسانة. وكأنّ الدولة هي أمي، تتابعني بكل تفاصيلي، أمّنت لي بطاقة صحية بعد أسبوعين من وصولي، وأعطتني مصروفي. تخيلي أنهم سألوني ان كنت أدخن ليضيفوا 40$ على المبلغ المخصص لي”.
حان وقت المحكمة. إنها المرحلة النهائية. كلمة واحدة “مقبولة” أو “مرفوضة” تحدد مصير سمر. اهتم مترجم أمّنته الحكومة لترجمة أقوال سمر من اللغة العربية الى اللغة الفرنسية (رغم اتقانها اللغة الفرنسية). بدأت المحكمة، ولم تسر الامور على خير، أردفت سمر “كانت الأجواء سلبية، شعرت انني سأرفض. لم يتعاطف أحد معي. فلم أكن أعرف كيف أتواصل معهم، وكنت أتصرف “ع اللبناني”، فاخبرهم ما أريده بتكبر، من مبدأ أنّ “كندا ليست مفتاح الجنة”. ولم يكن هذا المطلوب، بكل بساطة كانوا بانتظار أن أتكلم بصدق، وسماع الحقيقة كما هي. إستمر الوضع على هذه الحالة الى حين سألتني القاضية سؤالين حساسين، أحدهما كان عن أخي الذي كان ما زال تحت الخطر في لبنان. لم أستطع تمالك نفسي، وانفجرت بالبكاء، وبدأت البوح بمشاعري، ما دفع القاضية الى الخروج من خلف المنصة والاقتراب مني واحتضاني مردفةً “Bienvenue au Canada”. تحولت الى لاجئة شرعية، وبعد 11 شهراً حصلت على إقامة دائمة، ما يخولني السفر خارج الاراضي الكندية والعودة اليها متى شئت، وهذا ما اعاد “وسواس” لبنان الى تفكيري. كان بقائي صعباً والعودة أصعب، فالخطر الامني ما زال موجوداً. و”الغربة” كانت صعبة آنذاك، لانها كانت فعلاً “غربة” بكل ما للكلمة من معنى، فلم يكن هناك “إنترنت” أو “سوشيل ميديا”، وكانت دقيقة الاتصال بلبنان تكلفني 7.5 دولارات، وتذكرة السفر كانت باهظة الثمن. كان وضعي النفسي سيئاً، فخسرت الكثير من وزني، وأدمنت على الدخان، وزادت قساوة الطقس والثلوج من أزمتي النفسية. قررت أن أتسجل في الجامعة، فتخصصت وبدأت العمل، ورغم ذلك كنت اشعر بالوحدة وكل تفكيري كان في لبنان. كيف حال أهلي؟ أين رفاقي؟ من منهم خطف؟ من منهم سجن؟ من منهم تحت التعذيب”…
تدمع عينا سمر، وتحاول أن تلتقط أنفاسها، وتقول بغصة واضحة وصوت مخنوق “أتذكر وكأنّ ما أخبر به حصل البارحة، لم استطع يوماً ان انسى تلك الفترة المشؤومة”.
11 سنة بقيت سمر في كندا، وحصلت على الجنسية الكندية. في 2005 بعد ثورة الأرز وخروج الاحتلال السوري من لبنان، قررت العودة والاستقرار في وطنها، فهل يمكن أن تعود الى كندا ازاء الوضع المهترئ في لبنان؟ تجيب سمر “نيال لي ما طلع من لبنان، ونيال لي طلع ونسي لبنان”. أنا سأبقى في لبنان بارادتي ولكن لا اخفي اطمئناني، بسبب حملي جواز السفر الكندي، وثمن التذكرة، وبالتالي لدي خيار العودة متّى أردت. من المؤسف أن يكون هذا الجواز ورقة تحميني من وطني الأم، فصحيح أنّني اخضع للقانون اللبناني، الا انه يطبق علي قانون حقوق الانسان العالمي، ما يعطيني القوة لرفض اي امر يمس بحقوقي، مع الاشارة الى أنّه مكتوب على جوازي الكندي: “نحرك الاسطول من أجلك”.