كتبت ساسيليا دومط في صحيفة “الجمهورية”:
تعدّدت الأسباب والشارع واحد. فاق عدد المتظاهرين الثوار في المناطق اللبنانية كافة المليون ونصف المليون شخص، من شباب وأطفال ومسنّين، والمميز كان أنّ المشاركة أتت كمبادرات فردية، بمعنى أنّه لم يدعُ إليها السياسيون والزعماء ورؤساء الأحزاب، ولا حتّى وجه أو مرجع اجتماعي أو ديني.
من الجموع من يسمّي التحرّك تظاهراً، ومنهم من يعرّفه بالإضراب، ويدعوه آخرون بالاعتصام أو الثورة، وصولاً إلى العصيان، أما أقلّ ما تحمله هذه التسميات من معان، فهو الرفض والمواجهة وقلب الطاولة على الرموز التي تمثّل السلطة، أي الدولة الفعلية من نواب ووزراء، ولم تخلُ المطالبات من تسمية فخامة رئيس الجمهورية.
ما الذي دفع كلّ هذه الشرائح إلى النزول إلى الشارع؟ وما الذي يجمع هؤلاء دون تنظيم مسبق؟ لماذا في هذه المرحلة بالذات؟ ما الذي أدّى إلى الانفجار؟ إلامَ يطمحون؟ باختصار ما هي الحالة النفسية لهذه المجموعات وما علاقة ذلك بالسلطة الحاكمة؟
لا شكّ بأنّ مسببات الثورة نفسية – اجتماعية – اقتصادية، وهي مرتبطة في ما بينها بشكل وثيق، فالصعوبات الاجتماعية والاقتصادية تؤدّي بطبيعة الحال إلى اضطرابات ومشاكل نفسية، والعكس صحيح. أما القاسم المشترك فهو الشعور بالقلق والحرمان وعدم الرضا.
فطفلة الـ10 سنوات شاركت لتشكو غياب والدها القسريّ للعمل خارج البلاد، وبالتّالي حرمانها من الشعور بالأمان والاستقرار، والعيش في جوّ عائلي طبيعي كباقي الأطفال. أما ذاك الرجل المسنّ فأتى مطالباً بحقوق أولاده قائلاً: «أنا خلص عمري، بس بدّي إتّطمن عا ولادي وولاد ولادي قبل ما موت»، معبراً عن قلقه وخوفه من المستقبل.
وكم أدمعت العيون عندما صرخت أم في منتصف العمر قائلة: «أنا أم لشابين، لكنني لم أربيهما كلّ هذه السنوات كي يعيشا في بلد آخر، بعيداً عنّي، حيث تتوفر فرص العمل». ولم يستطع الرجل الثلاثيني إخفاء قلقه على صحة زوجته: «لا أستطيع أن أؤمّن العلاج لزوجتي التي يتآكل السرطان رئتيها».
أما ذاك الشاب مبتور الساق، الذي كان يساعد في تنظيف الشارع، فلم يفتح فمه، بالرغم من أنه من صاحب الإرادات الصلبة، وما من مؤسسة داعمة له إن من ناحية تأمين عمل له، أو طرف اصطناعي يمكّنه من التخلص عن عجزه والاستغناء عن عصاه التي لا تفارقه إلّا وقت النوم.
وفي تلك الزاوية من الطريق بدا الإحباط واضحاً على وجه الصبية التي فقدت الأمل بإيجاد وظيفة: «ما عندي واسطة، مش متل رفيقتي بنت خي الوزير يللي توظفت بمعاش خيالي ومركز لا أستطيع حتى أن أحلم به، وهي ما زالت في سنتها الجامعية الأولى».
فقد الثائرون في الطرقات الثقة بالسلطة ومن يمثلها، خاب أملهم بعد سنوات وسنوات من الانتظار والصبر، وما يطمحون إليه ليس بكثير، هم يبحثون عن الكرامة والاحترام، جل ما يطالبون به ليشكّل حقاً مكتسباً لأيّ إنسان على هذه الأرض. يفتقد الشعب إلى الاستقرار والأمان، إلى التخلّص من الذلّ على أبواب المستشفيات والزعماء والمراجع الدينية، من أجل تأمين لقمة العيش والاستشفاء والتعليم والسكن.
إنفجر الشارع في لبنان بعد صمت طويل، بعد خيبات متتالية ووعود كاذبة، بعد صحوة فاجأت رموز السلطة: “بدّي الدولة يلّي كرمالا استشهد إبني”، قالت أم شاب استشهد خلال الحرب الأهلية في لبنان. ثار الشعب الخائف والقلِق والمتوتر، من لم يعد لديه ما يخاف من خسارته، لم يعد يستطيع تحمّل المزيد من الضغوطات والصدمات النفسية.
الشعب اللبناني ثائر، لكن الملفت هو عدم إصغاء المسؤولين إليه، فظهر غياب تلك القنوات الحوارية بين الشعب والسلطة، وبرز انعدام التواصل بين من هم في الشارع ومن هم في الحكم.