كتب حسن خليل في جريدة الجمهورية:
دخلت البلاد مرحلة ما يمكن تسميته الهدوء القلق، يترقّب فيها الحراك، بحذر شديد، أداء أهل الحكم ما بعد استقالة الرئيس سعد الحريري، ليبني على الشيء مقتضاه، في ظل تفاعل، لا يزال غير منظور، للأزمة المالية، انعكس جزئياً في الحركة المصرفية طوال يوم أمس. وبين هذا وتلك، نشاط سياسي، بعضه ظاهر، ومعظمه تحتضنه الغرف المغلقة، يتلمّس الخطوات المقبلة، في مسار تشكيل حكومة جديدة، تستجيب تطلعات الشارع، وترضي أقطاب السلطة القائمة.
هي ساعات وأيام مفصليّة، لا بدّ من أن تحدّد نتائجها مستقبل لبنان لعقود مقبلة، من سماتها مستوى غير مسبوق من التشابك والتعقيد، لعوامل متعددة يختلط فيها السياسي بالأمني والاقتصادي والاجتماعي، والداخلي بالإقليمي والدولي، وتتصاعد فيها درجات المخاطر، بما يستبطن احتمالات، الأكثر تفاؤلاً فيها خضّات مالية واجتماعية تستبق وترافق حلولاً انقاذية تنجّي البلد وإن بأثمان باهظة، وينذر الأسوأ فيها بسنوات سوداء تذكّر بما خبره جيل الحرب خلال العشرينيّة السوداء.
لكن دون الوصول إلى النتائج المرضية، مطبات كثيرة، لا بدّ من التحذير منها، نوجزها في ما يأتي:
الأول، أن يتعامل أهل الحكم مع ما حصل بأنّه اشتباك سياسي، تمّت ترجمته في الشارع، وبالتالي فإنّ أصل المعالجة يتمّ بالسياسة. والمقصود أن يعتبر هؤلاء أنّ ما حصل هو احتقان ناتج من التناقضات بين أهل التسوية الرئاسية، ومن تداعيات هذه الأخيرة على من لم يشارك فيها. وعليه، الخطر كل الخطر أن يكون الاستنتاج بأنّ جذر الحل للأزمة القائمة إعادة انتاج تسوية جديدة بين أطراف الحكم، بشروط جديدة.
الثاني، ألّا يدرك الحراك أنّ الصراع السياسي، بتشابكاته المحلية والإقليمية، مكون عضوي في ما يحصل، وأنّ الإساءة في التعامل معه سيجرّ البلاد إلى اصطفاف ثنائي، يتناغم مع محاور المنطقة، يبدأ بشارع في مقابل شارع، لكن أحداً لا يستطيع أن يجزم بمآلاته.
ما جرى في الملف الحكومي كان مدويّاً. الحريري استقال من دون التنسيق مع أحد. غرّد منفرداً ببيان صدر من «بيت الوسط» خلافاً للأعراف السياسية. لم يفعلها بمبادرة ذاتية. لطالما كان مرتاحاً مع ما وفّرته له التسوية الرئاسية. هناك من دفعه إلى خطوة من هذا النوع. ومن قام بذلك لديه أهداف ومطالب، لن يقبل الحريري العودة إلى موقعه في السراي من دون تحقيقها. في المقابل، فإنّ للأطراف الأخرى من أهل الحكم، مخاوف وهواجس. وهذا الطرف لن يرضى بدوره بعودة الحريري من دون ضمانات وتطمينات تبدّدها. فهل يمكن لمعادلة كهذه أن تتحقق؟
لا يمكن الجزم، حتى اليوم، بذلك. ولكن إلى حينه، البلد يتجّه إلى صراع شوارع. تطورات الأيام الماضية، بما شهدته من اعتداءات بشعة مدانة واستعراضات مستفزة مرفوضة وشعارات فتنوية بغيضة، ليست سوى مقدمات. والاستخفاف بهذا الأمر، إذا افترضنا حسن النيات، جهل مريب. أما إذا افترضنا العكس، فتآمر مبين. استشهد على ذلك بتجارب السنوات القليلة الماضية، من أوكرانيا إلى عراق اليوم، مروراً بليبيا واليمن وفنزويلا. هو ديدن الشعوب الضعيفة، التي ما أن تنتفض، حتى تتسلّل إلى حراكها لعبة الأمم، فتطفئ الآمال وتحطم الأحلام وتطيح ما تبقى من استقرار.
الثالث، أن يتعامل الطرفان، الحراك والحكم، مع الأزمة المالية باعتبارها عادية سبق أن عرفتها دول كثيرة وتعافت منها. لا يا أصدقائي. ما حصل في لبنان ليس مشهوداً. في كل الكوارث المالية والاقتصادية التي عصفت بالدول، كانت هذه الأخيرة تفلس، وتبقى مدّخرات الشعب إلّا في لبنان، السلطة الفاسدة الجائرة التي حكمت البلاد منذ بداية التسعينيات بدّدت ودائع الناس، ومعها أموال صندوق الضمان الاجتماعي.
لا يعني هذا طبعاً أنّ الأمل منعدم، لكنه يتقلّص يوماً بعد يوم. إغلاق الحدود المالية، تليها مباشرة إعادة هيكلة الدين العام وفوائده. لا بدّ من أن تنخفض خدمة هذا الدين من 6.5 مليارات دولار إلى 2.5 إلى 3 مليارات. إجراء في حاجة إلى قرار سياسي، لا يمكن لأحد أن يعارضه. يترافق مع هذا إلغاء كل العجوزات في إدارات الدولة، وفي مقدمها عجز الكهرباء، مهما كانت النتائج، وإلغاء ما تدفعه الدولة للمشتقات النفطيّة. ولا بدّ من قرارات صارمة لتحجيم الاستيراد، وضرب كل المحميات (من «أوجيرو» إلى المرفأ مروراً بمجلس الجنوب والانماء والاعمار وصندوق المهجرين..). هي الصدمة الوحيدة التي يمكن أن تظهر للمجتمع الدولي بأنّ الدولة اللبنانية ليست فاشلة، بل قادرة على إدارة الأزمة، بما يقنعه بجدوى تقديم المساعدة المالية لها للخروج من مسارها نحو الانهيار.
خطوات من هذا النوع تساعد في إخراج البلاد من عنق الزجاجة، لكنها وحدها غير كافية للنهوض بلبنان مجدداً وتجنّب «عودة حليمة إلى عاداتها القديمة». لا بديل من الغاء نظام المحاصصة الطائفي، والذهاب باتجاه إقرار دولة مدنية، دولة المواطنة، حيث السيادة للقانون، وللقانون وحده. هذا هو المطلب الجوهري للانتفاضة الشعبيّة التي يجب ألا تحيد عنه.