كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
يصحّ القول ان الحكومة الجديدة، وان قبل وقت طويل على ابصارها النور، لن تكون سوى حكومة تقليل الخسائر، وحكومة الهزيمة بالنقاط. بعد الذي افضى اليه الحراك الشعبي، بات على قوى الحكم التسليم بواقع غير مُجرّب قبلاً، ولا تعرف الى اين يقودها؟
ما خلا سابقة الرئيس ميشال سليمان، اعتاد رئيس الجمهورية منذ ما بعد اتفاق الطائف الذي احدث فقرة الاستشارات النيابية الملزمة في المادة 53 من الدستور، المبادرة الى تحديد موعد هذه الاستشارات ما ان يتسلم استقالة الحكومة. ذلك ما فعله الرئيسان الياس هراوي واميل لحود. مع ثالثهما، سليمان، حدد موعداً للاستشارات الملزمة في اليوم الخامس في 17 كانون الثاني 2011 و18 منه، قبل ان يسارع عشية هذا الموعد الى تأجيلها اسبوعاً في 24 كانون الثاني و25 منه، بذريعة اجراء مزيد من المشاورات كانت كفيلة بقلب موازين القوى آنذاك وانتقال الاكثرية من قوى 14 آذار الى قوى 8 آذار. مفارقة ذلك الحين، ان رئيس الحكومة كان الرئيس سعد الحريري، وصاحب اليد الطولى في اطاحة حكومته كان العماد ميشال عون عندما رعى من الرابية استقالة الثلث+ 1 من الوزراء. ثم كانت الصدمة التالية للحريري عندما ترشّح لتأليف الحكومة في وجه الرئيس نجيب ميقاتي، وخسر بفارق ثمانية اصوات امامه، في سابقة ثانية لم يخبرها اي من اسلافه – ولا حتماً والده الراحل – بهزيمته في استشارات نيابية ملزمة.
الآن يكرر رئيس الجمهورية ميشال عون سابقة سلفه في عدم استعجال اجراء استشارات نيابية ملزمة الى اليوم الخامس، كما يرشح ان يكون موعدها الاثنين المقبل، لتكليف رئيس جديد تأليف حكومة. البعض وجد في استقالة الحريري في 29 تشرين الاول ردّاً – وإن غير مقصود – للتحية على ما حدث عام 2011، بأن فاجأ رئيس الجمهورية باستقالته من غير تنسيق معه، في وقت يحتاج الرئيس الى بقاء الحكومة الى جانبه، مثلما احتاج الحريري الى حكومته عامذاك وهو يجتمع بالرئيس الاميركي باراك اوباما في البيت الابيض.
منذ استقالة الحريري يسود الغموض المرحلة التالية، رغم ان الآلية الدستورية في المادة 53 تتيح بسهولة الانتقال من مرحلة التكليف الى مرحلة التأليف. الحجج التي يتسلح بها رئيس الجمهورية والرئيس المستقيل ان اياً منهما لا يريد كشف خياراته سلفاً، خصوصاً انهما المعنيان بإصدار مرسوم تأليف الحكومة. من دون هذا المرسوم يصبح تكليف الغالبية النيابية للشخصية المرشحة تأليف الحكومة غير ذي جدوى.
بذلك يتصرّف رئيس الجمهورية تبعاً لبضعة معطيات تحمله على التريث قليلاً من الوقت:
1 – ليس في المادة 53 مهلة مقيِّدة لرئيس الجمهورية اجراء الاستشارات النيابية الملزمة. القيد المعلوم في المادة 53 هو اجراؤه اياها والتزامه نتائجها وحتمية اطلاعه رئيس مجلس النواب على تلك النتائج، ومن ثم تسمية الرئيس المكلف. على غرار اجتهاد كل رئيس مكلف بأن لا مهلة مقيِّدة له تأليف الحكومة، بات لكل رئيس جمهورية الاجتهاد من الآن فصاعداً بأن لا مهلة مقيِّدة له اجراء الاستشارات النيابية الملزمة.
2 ـ ما حصل في الشارع انقلاب على الحكم والسلطات. الا ان استقالة الحريري ظهرت مثابة استكمال للانقلاب على موازين القوى السياسية، خصوصاً ان الرئيس المستقيل، فور اتخاذه هذا القرار، سارع الى استنفار الشارع السنّي في بيروت وطرابلس وعكار وصيدا والبقاع الاوسط من اجل وقوفه الى جانبه، ومحاولة تحييد نفسه عن كل الشعارات التي طرحها الحراك الشعبي. وهو مغزى ما راح انصاره في الشارع يعلنون رفضهم اقتصار التنحي عليه وحده. من خلال استعادة شارعه السنّي الذي كان لأيام قليلة جزءاً لا يتجزأ من حملة «كلن يعني كلن» بكل مفرداتها وشتائمها وغضبها واستفزازاتها، وجّه الحريري رسالة الى رئيس الجمهورية وحزب الله معاً مفادها انه لا يزال الشخصية السنّية الوحيدة المرشحة لدخول السرايا.
3 ـ لا اوهام لدى الحريري بأن رئيس الجمهورية والرئيس نبيه برّي وحزب الله في وارد التخلي عنه، او الذهاب بالسهولة المتوقعة الى مرشح سواه لترؤس الحكومة. بيد ان اياً من هؤلاء ليس في وارد القبول بحكومة طبقاً للشروط التي يطرحها الحريري ويُقرنها بقبوله تأليف الحكومة. تالياً، رغم استبعادها تماماً، فإن حكومة تكنوقراط لا يرئسها سوى رئيس تكنوقراط. الحجج المتتالية في رفض هذا الشرط، ان في الحكومة المستقيلة وزراء غير حزبيين ومن غير النواب وذوي اختصاص، ما يتيح توسيع التجربة بإحلال عدد اكبر من هذا الطراز من الوزراء، اضافة الى وزراء سياسيين من غير النواب والحزبيين اللصيقين بقادة الاحزاب والكتل الرئيسية التي تمثل توازن القوى داخل السلطة، ويُنظر اليها على انها العامود الفقري لبناء السلطات.
ما يلتقي عليه رئيس الجمهورية وحزب الله – في معرض تخفيف الخسائر الناجمة عن الحراك الشعبي – ايجاد تسوية معقولة توازي بين ما يطالب به الحراك الشعبي وبين حتمية الاوزان السياسية الكبيرة غير القابلة للعزل ولا للاستغناء عنها، ولا لابعادها عن سلطة القرار في البلاد. لذا يظل الحريري المرشح الابرز للسرايا، فيما الطرفان المقابلان، وهما رئيس الجمهورية وحزب الله، ليسا في وارد مقاربة Plan B الذي لا يعدو كونه في الظروف الحاضرة سوى مجازفة غير مأمونة.
على نحو كهذا، تصبح الحكومة المصغرة مؤلفة من وجوه ترضي الحراك الشعبي، وتكتفي بوزير واحد فقط للكتل الرئيسية الممثلة لموازين القوى.
4 ـ بالتأكيد لا عودة الى حكومة ثلاثينية، ولا الى حكومة وحدة وطنية، ولا خصوصاً الى حكومة نواب وحزبيين. حكومة من 14 وزيراً ليس فيها اي من الوزراء الذين استهدفهم الحراك الشعبي، وكانوا في مرمى سهامه. لا يقتصر هذا المعيار على الوزير جبران باسيل وحده، بل يشمل نظراءه في تيار المستقبل وحزب الله والحزب التقدمي الاشتراكي وحركة امل. حتى الوصول الى تلك الحكومة – الخالية من هؤلاء – سيظل باسيل المفاوض الرئيسي للحريري في تأليفها، وإن هو لن يكون في عدادها، خلافاً للاعتقاد السائد في خلاصة ما يستنتجه الحراك الشعبي وخصوم باسيل داخل السلطة الاجرائية، بأن الرجل سيصبح على هامش العهد.
اولى دلالات دور التفاوض هذا، ان الشرط المقابل لما يطالب به الحريري – وهو حكومة تكنوقراط خالصة – يقضي بأن يكون باسيل الى جانب الحريري في الحكومة الجديدة او يخرجان منها معاً. في ذلك اشارة واضحة الى مشقة التفاوض الذي ينتظر المرحلة التالية لتكليف الحريري ترؤس الحكومة.