كتب أحمد الزعبي في جريدة اللواء:
قبل ثلاث سنوات، بُعيد انتخابه رئيساً للجمهورية في تشرين الأول 2016، أطل الرئيس ميشال عون من أمام «بيت الشعب» ليطرح خارطة طريق مكتملة الأوصاف لعهده، رفع شعار التزام حدّي الدستور والقانون، معلياً سقف التحدي بإعلانه معركة ضد الفساد. يومها بدا الجنرال وكأن السنين لم تغير فيه شيئاً، فكما وقف في المكان عينه قبل 26 سنة ليعلن معركة التحرير، بدا ثائراً من دون مراعاة أن العمل السياسي، وخصوصاً في لبنان، يحتمل النجاح، لكنه أيضاً معرّض للخسارة والفشل بفعل شروط اللعبة الديموقراطية، ولا يجدر بصاحب الموقع الأول أن يُعلي سقف الوعود.. التاريخ يعيد نفسه ولو بصور مختلفة.
الواقع أن اختيار عنوان محاربة الفساد تحديداً، يفرض نفسه على أي مقارنة لاحقة من عمر العهد، ذلك أن الفساد في أداء السلطة استحالَ بفعل التراكم الزمني نهجاً في إدارة الشأن العام وليس طريقة للإلتفاف على الدستور والقانون وتحقيق المكاسب الخاصة فقط. مما قاله الرئيس عون يومها «لن نكون مرهونين لأي بلد وسنتخلص من الوصايات الخارجية»، و«لا يوجد رأس يخرق سقف الدستور». وإذ أكد أن «الفساد سيتم استئصاله»، وعد بتأمين الخدمات التي تبدو «بدائية، لكن الناس محرومين منها». يمكن القول إن عون افتتح عهده بمخاطرة كبيرة تتمثل بمحاربة الفساد والإلتزام بالدستور، لكن الرئاسة المدعومة بتسوية سياسية، ومحصّنة دستورياً، ونيابياً وحكومياً وشعبياً، جعلت من الأمر، حينها، موضع ترحيب كبير.
«كلن» إلا أنا!
دخل العهد سنته الرابعة. وفيما شبح الانهيار وآثار الفشل وملامح الانقسام وتفشّي الشعبويات وسوء الإدارة تظلل الوضع العام، تبدو البلاد وكأنها تنزلق رويداً رويداً نحو أخطر أزماتها السياسية والاقتصادية والنقدية في ظل هذا العهد الميمون.
مساء الخميس، وقف الرئيس عون مجدداً لتقديم ما أسماه «كشف حساب» من عمر عهده، وقال إنه أنجز في مكافحة الارهاب، وقانون الانتخاب، وملف النازحين وسيمضي في محاربة الفساد، وهو إذ حمّل الآخرين مسؤولية ما وصلت إليه أوضاع البلاد اقتصادياً، طرح كثيراً من الوعود، لكنه لم يقل لماذا لم ينجز في موضوع مكافحة الفساد، ومن يتحمل مسؤولية هذا الخلل. لم يطمئن خطاب الرئيس غالبية الشعب الذي انتظره، لأنهم ببساطة شعروا أنه لم يلامس وجعهم، ولم يجب عن هواجسهم. أكثر من ذلك، تجاوز عون أولويات كثيرة تفرض نفسها (كتحديد موعد الاستشارات وليس الكلام عن شكل الحكومة التي يشكّلها الرئيس المكلف ثم يناقشها معه)، وذهب في ما يشبه المناورةإلى موضوع القانون المدني الموحد للأحوال الشخصية، مع أنه حرم نحو ألف شاب وصبية من وظائفهم التي فازوا بها بحجة التمسك بالمناصفة!!
هكذا وفي سنوات قليلة، بدا أن العهدَ شاخَ قبل أوانه، فيما أثبتت ممارسات كثيرة أن الدستور بات أشبه بوجهة نظر، وأن شعار محاربة الفساد طريق إلى شرعنة المحاصصة والقبول بحكم الطوائف على حساب المواطنة. وكل ذلك أسّس إلى غضبة الشعب الكبيرة، وإلى خيبة أمله التي انفجرت يوم 17 تشرين مطالبة بالتغيير الكبير في كل المواقع والمناصب.
الثورة المضادة
على أن الاحتفالية بالعهد والتي تستكمل غداً بمسيرة دعم نحو قصر بعبدا، لا تلغي متابعة الحدث – الزلزال وقد أتمّ أسبوعين من عمره؛ فمع عودة الناس إلى الساحات، يطرح السؤال عن سبب التعامل العنيف مع المتظاهرين بحجة إعادة فتح الطرقات، كما حصل في منطقة العبدة في عكار ليل الثلاثاء الفائت. أيُّ ذنبٍ ارتكبه أهالي بلدات وقرى عكار غداة استقالة الرئيس سعد الحريري بالتعبير عن رأيهم ورفع الشعار الذي رفعته ثورة 17 تشرين طيلة 13 يوماً، ليتم التعامل معهم، بشدة وعنف؟ أين كان هذا البَأسُ والحميّة وقنابل الغاز المسيل للدموع لحظة هجوم عناصر ميليشيوية علناً ضد النساء والمدنيين في وسط بيروت؟! أغلبُ الظن أن قائد الجيش العماد جوزاف عون لا يرضى بذلك، ولا يريده أو يقبل به أصلاً، لكن ما جرى يطرح أسئلة كبرى وضرورية.
أهمية التظاهرات التي حصلت ليل الثلاثاء، في طرابلس، وعكار، وصيدا، والبقاعين الاوسط والغربي، أنها وجّهت تنبيهاً للجهات التي أوحت بأن الأمور باتت مع استقالة الحكومة طبيعية، فذكّرته بأن الوضع في لبنان غير طبيعي والأمور «مش ماشية»، قبل أن تعيد بث الحماسة من جديد في بقية الساحات. وهي أرادت فوق ذلك القول؛
أولاً، إن قوة الثورة في عدم طائفيتها، وبالتالي يجب الحذر من استيهام إمكانية جرّ مكوّن وطني أساسي إلى رفع شعارات طائفية للإصطدام بالشرعية (كما حصل في العبدة وقبله في البداوي وبعده في صيدا) من جهة، أو بمكونات الثورة من جهة ثانية.
ثانياً، أن المكوّن السني ليس ضعيفاً، بالرغم من الاختلال الحاصل منذ سنوات، وبالرغم من السعي المشبوه منذ 2015 لتصويره على غير حقيقته، وهو ما تؤكده المشهدية الحضارية والمدنية التي قدمتها طرابلس، وفي الإمداد البشري من عكار والضنية والبقاع الغربي وإقليم الخروب وصيدا لكل ساحات الثورة، وخصوصاً في بيروت. لقد استشعر هذا الجمهور سعياً للايحاء بأن ثمة فريقاً مهزوماً، من خلال التريث بتحديد مواعيد الاستشارات النيابية الملزمة، أو التذاكي بالقول أن معيار تشكيل حكومة من غير النواب يجب أن يسري على رئيسها أيضاً مع ما يعنيه ذلك من هرطقة دستورية ووطنية، لا تقلّ عبثية عن الإصرار الغريب على الايحاء بأن النظام اللبناني بات نظاماً رئاسياً!!
ثالثاً، أرادت الجماهير التذكير بأن الشعار الجامع المتعلق بالطبقة السياسية كاملة ليس مناورة، وبالتالي إن استقالة الحكومة خطوة جريئة تسجّل للحريري لكنها تبقى خطوة واحدة في سسلسلة مطالب ومحطات. وبالتالي مساءَلة بعض مكونات الثورة (بمحبة ومن دون تشكيك)، التي انشغلت فجأة بحلقات نقاشات دستورية، أين أصبح شعار «كلن يعني كلن»! ما يعزز هذا الاتجاه أمور عديدة، كظهور فئة، شمّرت عن سواعدها لـ «القطف» وركوب الموجة ولعب دورين متناقضين: السلطة والثورة، والموقف اللافت لمجلس المطارنة الداعي إلى الالتفاف حول رئيس الجمهورية، وهم يعلمون أن عون جزء من المشكلة في البلد، ومن الصعب أن يكون حلاً أو عنواناً للحل، وأخيراً اتهام مرشد الثورة الايرانية علي خامنئي لثورة شباب لبنان (والعراق) بأنها «أعمال شغب تسببت بها أميركا والكيان الصهيوني ودول غربية بأموال دول رجعية»!
سيسمع اللبنانيون كلاماً كثيراً، لا يعدو كونه هروباً إلى الأمام وجرّاً للثورة إلى مستنقع التفاصيل واللعب على عامل الوقت، وهنا أهمية التمسك بشعاراتها الأولى. التذاكي لن ينفع، والشعب لن يبلع هذا الطعم، ومدخل ذلك أمران: الإسراع بتشكيل حكومة تكنو – سياسية مع الحرص على عدم عودة أي وجه استفزازي ضمن التشكيلة العتيدة للسلطة التنفيذية مع احترام النص الدستوري في ما يتصل برئيس مجلس الوزراء وصلاحياته. ثانياً، التمسك ببقية الشعارات التي ثار الناس لأجلها وصولاً حتى تحقيقها ولو بجدول مرحلي تجنباً للأسوأ. ما يطمئن أنه كما فعلت أصوات شابات وشباب لبنان فعلها في ساحات الوطن وفي وجدان الشعب وتاريخ البلد، ستفعل مجدداً في ما لو سلكت قوى السلطة طريق المَكر للالتفاف على مطالب الناس بدولةٍ ومواطنة وحقوق وخدمات وإدارة رشيدة، في ما بقي من عمر العهد.