عادت الازمات المعيشية التي كانت تتهدد المواطنين في يومياتهم لتذرّ بقرنها من جديد في الساعات الماضية، بأحجام مضاعفة هذه المرة، وقد لمسها اللبنانيون بوضوح بعد ان فتحت الاسواق أبوابها في أعقاب الاقفال لنحو أسبوعين، متأثّرة بـ”ثورة 17 تشرين”. فعلى رفوف المحال التجارية والسوبرماركت، اسعار السلع على تنوّعها، مستورَدة كانت ام محلية الصنع، ارتفعت في شكل لافت. بطاقات الخلوي والانترنت، الخضار الفاكهة المعلّبات، “كل شي زاد سعرو” على حد تعبير المواطنين. ومع ان الوزراء المعنيين تحرّكوا وأصدروا قرارات محاولين لجم “جشع” التجار، وفي وقت اعتبر رئيس جمعية المستهلك زهير برو أن “ارتفاع اسعار السلع والخدمات في السوق اللبناني بحجة ارتفاع صرف الدولار هو نوع من الاستغلال المتوحش من التجار وغياب السلطة”، لم يطرأ على هذا الواقع المرّ، أي تعديل “جذري” يريح الناس.
وليكتمل هذا المشهد المقلق، قطاع المحروقات يدق جرس الانذار من جديد. اذ اعتبر رئيس مجموعة محطات البراكس جورج البراكس “انّ هناك بعض الشركات المستوردة للنفط تريد أن تلعب بالنار في الأوقات الصعبة التي تمر بها البلاد”. وأكد ان “في حال لم يتم التوصّل الى حلول يوم الاثنين، فلن يكون أمامنا سوى التصعيد الكبير”. وناشَد المسؤولين التدخّل “إذ لا يجوز أن تبقى الدولة في موقع المتفرّج”.
أما نقيب مستوردي الادوية كريم جبارة، فلسان حاله لا يختلف كثيرا. اذ لفت الى ان “المشاكل ستكون اخطر بكثير في المستقبل القريب. فالمصارف ليست لديها القدرة على تسليف القطاع الخاص وعلى تسليفنا وبالتالي سنصل الى ازمة سيولة كبيرة “. وأضاف: “التعميم الصادر عن مصرف لبنان يحل مشكلة الدولار ولكنه يكلفنا ثلث المدخول” مؤكدا “عدم وجود مافيا للدواء”. وأوضح “ان توزيع الادوية لم ينقطع رغم اقفال الطرقات”، مضيفا “المصارف لم تعد لديها القدرة على التسليف”. جبارة، وفي حديث اذاعي، تابع: “خلال الازمة وبأوجها، تم توزيع الادوية الى جميع المناطق اللبنانية وتم توفير جميع انواع الادوية لأنه كان لدينا مخزون لمدة 3 اشهر. كل ذلك يحصل، فيما الدولار لا يزال شبه مقطوع من الاسواق، ويبيعه بعض الصيارفة بأسعار خيالية”.
تسرد مصادر سياسية متابعة هذه الحقائق، لتقول ان تلك العوامل كان لها الدور الاكبر في انفجار الانتفاضة الشعبية منذ أسبوعين، التي قادت الى إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري. وتتابع، عبر “المركزية”: “شعلة هذه الثورة، لم تنطفئ بعد، بل خفتت لبرهة، منتظِرة الاتفاق على مجلس وزراء جديد من الشخصيات المستقلة الحيادية التكنوقراط، يكون على رأس أولوياته وضع الواقع الاقتصادي المزري هذا، على سكة النهوض من جديد”. لكن ما يجدر التنبه اليه هنا، هو ان الناس التي يكويها غلاء المعيشة ليسوا في وارد الانتظار طويلا.
غير ان مقاربة أهل الحكم لملف التكليف والتأليف لا تدل الى إدراكهم دقة الوضع شعبيا ومعيشيا، بل ان مماطلتهم في الحسم في هوية من سيتولى رئاسة الحكومة العتيدة وتلهّيهم في حجمها وطبيعتها، متجاهلين المطالب الواضحة للثوار، توحي بأنهم لم يتعظوا من تطورات الايام الماضية. فوفق الأجواء السائدة، لا زال كل واحد منهم يضع شروطا يقابلها خصمه بشروط مضادة، كما يحاولون الالتفاف على ما يريده الناس عبر طرح صيغ حكومية غريبة عجيبة يسعون من خلالها الى حماية مصالحهم الشخصية تارة والحزبية طورا والاقليمية تارة اخرى.
وعليه، تحذر المصادر من ان الاستمرار على هذا المنوال والمضي في عقلية الحكم نفسها التي كانت سائدة قبل 17 تشرين، ستكون نتائجها وخيمة على الطبقة السياسية. فإذا اطاحت الثورة الاولى حكومة الحريري، فإن نسختها الثانية قد تطيح هذا الطاقم كلّه “كلّو يعني كلّو”.