كتبت ليا القزي في “الاخبار”:
أراد جبران باسيل الدخول في لعبة «الشارع»، والتأكيد أنّه لا يزال قادراً على استنهاض قواعد التيار الوطني الحرّ. «الشعب العوني»، توجّه أمس بالآلاف إلى بعبدا، ليتظاهر على مقربة من القصر الجمهوري دعماً للعهد. نجح باسيل في ذلك، ولو أنّ خطابه لم يُظهر أي تغيّر في سلوكه السياسي. يريد أن يضع نفسه في صفوف المعارضين، من دون أن يخلع ثوب السلطة.
قرّر التيار الوطني الحرّ، أمس، أن يُحرّك «شارعه»، ليوصل رسالةً بأنّه «لست وحيداً». صحيحٌ أنّ الحشد، الذي حُدّدت له رقعة لم تتعدَّ الكلم الواحد، لم يكن بمئات الآلاف ولا يُمكن مقارنته بالعدد الذي شارك في احتفال تنصيب ميشال عون، ولكن يُسجّل للعونيين تمكنهم من استنفار جزء كبير من شارعهم في هذه الظروف. مناسبة مرور نصف الولاية الرئاسية، شكّلت التوقيت «الأمثل»، للردّ على شعارات القسم الأكبر من المعتصمين في العشرين يوماً الماضية. فانتفاضة 17 تشرين الأول، وإن أطلقتها سياسات الحكومة الاقتصادية والوضع المالي المُتأزم، فإن قسماً كبيراً من الشعارات السياسية فيها كانت موجّهة ضدّ جبران باسيل والعهد الرئاسي. هما نظرياً أكثر «المُتضررين» من هبّة الشارع. والقصّة ليست فقط في إمكانية وجود «توجيه سياسي» ما ضدّ التيار العوني، فهو أيضاً يتحمّل جزءاً من المسؤولية التي تُبرّر نقمة الناس، بعدما كانت نتيجة «العهد» في الثلاث سنوات الأولى، «مُخيّبة» للآمال، ولا تلتقي مع التوقعات الكبرى التي كانت مُلقاة على كتفيه. وعودٌ كثيرة لم تجد طريقها إلى التنفيذ، دائماً بحجّة أنّ الآخرين «عرقلوا عملنا»، أكان ذلك قبل تسلّم الحُكم أم بعده. وأمس، أضاف باسيل إلى «العرقلة»، مُعادلة جديدة بأنّ «التيار» يُظلم مرتين: «مرّة من رموز الفساد، ومرّة من ضحايا الفساد». الحزب الذي يقول إنّه الأكثر تمثيلاً في «بيئته»، وصاحب أكبر تكتل نيابي، والثلث الضامن في مجلس الوزراء (قبل استقالة الحكومة)، يُصر على أن يُبقي نفسه في دائرة الدفاع والضعف. منذ الـ 1990 حتى الـ 2005، «نفونا وعزلونا واضطهدونا وعملوا كلّ سياسات الهدر والنهب والفساد»، أما بعد الدخول إلى الدولة «بدأنا نضالاً ضدّ الفساد.
كنا وحدنا وصرنا نعيش الحلم أن نبني دولة». تكلّم باسيل كما لو أنّه فعلاً وحيدٌ، لم يُبرم تسوية مع تيار المستقبل، انضمت إليها القوات اللبنانية وعدد من الشخصيات المستقلة. أو أنّه ليس منذ الـ 2006 حليف حزب الله وفريق 8 آذار. تناسى أنّ «نضاله ضدّ الفساد» أدّى إلى رمي «الإبراء المستحيل» في الدرج، والموافقة على التجديد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بالتزامن مع استفادة «سيدروس بنك» («أسّسه» في الـ 2011، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون العربية فادي العسلي، ووزير الاقتصاد السابق رائد خوري، وكانت ميراي ميشال عون تشغل موقعاً إدارياً فيه) من الهندسات المالية التي قام بها «المركزي»، وبقاء مشروع الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المُنتج مُجرّد شعار لم يخض «التيار» معركة حقيقية لفرضه، وتقديم أوراق اقتصادية لا تختلف كثيراً عن نظرة باقي الطبقة الحاكمة، وعلى رأسها تيار المستقبل. ارتكب «التيار» في السنوات الأخيرة «خطيئة» تخليه عن خطاب «العماد ميشال عون» المدني، مُفضلاً أن يُصبح وكيل «استعادة الحقوق المسيحية»، ليُحوّل لبنانيين كُثراً إلى «أعداء» له. واستكمل جبران باسيل ذلك في خطابه أمس، حين أفرغ خطاب رئيس الجمهورية حول الدولة المدنية من مضمونه التقدمي، مُعيداً إياه نقطة خلافية بين المسلمين والمسيحيين. يريد تحقيق دولة مدنية «من دون أن نقلب النظام بل بتطويره من خلال دستورنا، ومن خلال إنشاء مجلس شيوخ يكون لديه الصلاحيات الكيانية والميثاقية، ونطبق اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة التي تسهل حياة اللبنانيين وتنمي مناطقهم. هكذا نبدأ بقانون موحد للأحوال الشخصية وننتقل تدريجياً للدولة المدنية انطلاقاً من المادة 95 من الدستور. هذا فكر ميشال عون، وهذه مدرسته التي تأخذ الناس بإرادتهم للدولة العصرية العلمانية». عدا عن التعارض بين المدنية والعلمانية، يريد باسيل الانطلاق للدولة المدنية من المادة 95، التي يدور صراعٌ حولها، ويذكّر «قانون موحد للأحوال الشخصية»، بما يُثير حساسيات الطوائف الأخرى وخصوصياتها.
رغم ذلك، اختار رئيس التيار الوطني الحرّ أن يصل إلى ساحة التظاهرة في بعبدا، على وقع كلمات الأغنية العونية: «وعدناكم بالتغيير… وحقّقنا نحنا كتير». كلماتٌ لا تزال تُثير عواطف عونيين كُثر، «يُكابرون» على واقع أنّهم باتوا جزءاً من «الدولة»، ولكنّها تُشجع عونيين آخرين على النقد الذاتي: «15 سنة معارضة، و3 سنوات في الحُكم، ولم نُنجز شيئاً بعد… نريد محاربة الفساد، وفي الآخر نقبل بسعد الحريري رئيساً للحكومة»، يقول شاب عوني بدأ مسيرته الحزبية مع «الأنصار». طيب لماذا المُشاركة إذاً؟ «دعماً لميشال عون». وهناك سبب آخر، «إقفال القوات اللبنانية للطرقات استفزّنا». شانتال مُشاركة في تظاهرة أمس، وصلت من رحبة العكارية. «كانت ابنتي مريضة في الجبل، ومُنعت على إحدى النقاط من المرور للتوجه إليها. هذا التصرف شجعني على المشاركة اليوم (أمس)». تلك السيدة انتخبت خلال الانتخابات النيابية الماضية العميد المتقاعد جورج نادر، لكنّها لم تنضم إليه في الانتفاضة الشعبية، «لأنّ ثورة من دون قائد تؤدي إلى الفوضى، ولأن التظاهرات تحولت من مطلبية إلى التوجيه ضدّ الرئيس».
توجّه باسيل إلى المعتصمين في المناطق اللبنانية، مُخاطباً: «نحن مثلكم». يريد أن يردم الهوّة بينه وبينهم، وتصوير نفسه «حليفاً للشعب»، عسى أن يشطب اسمه من لائحة الـ«كلّن يعني كلّن»، لأنّه «لسنا كلنا فاسدين وزعران». تكلّم لغة المتظاهرين، رافعاً المطالب نفسها التي يرفعونها، لا بل زايد عليهم في محلات كثيرة حتى خُيّل أنّ المنصة هي في ساحة رياض الصلح وليس بعبدا، ومن يعتليها ينتمي إلى إحدى المجموعات المعارضة وليس شريكاً في الحُكم. ما الذي استدعى «استنفار» قواعد الأقضية اللبنانية وتوجّهها بالآلاف إلى بعبدا؟ «لأنّ المشكلة الأساسية هي بفكرة الفساد، وهنا نُقرّر كيف يكون مصير لبنان»، بحسب الوزير السابق يعقوب الصراف. نَزل إلى الشارع كمتظاهر مؤيد لعون، مثله مثل المغوار المتقاعد بيار خوري الذي أراد أن «نُبرهن للجميع أنّه (عون) ليس وحيداً، وهو الأمل الوحيد». هل لا يزال «الأمل» بعد كلّ الأزمات التي يمرّ بها البلد في عهده؟ تستنفر السيدة (رفضت كشف اسمها) من بلدة حومين (النبطية)، مُدافعةً عن الرئيس، «لأن عمل حكومة وحدة وطنية، وجاب معو جعجع وجنبلاط تقّالات. كانوا ميليشيات وحطّن معو، بس هوي ما فات بالمنظومة». تبدو مقتنعة بذلك، وغيرها مُتأكد أنّه «لا 13 ولا 17 تشرين بيغيّروا فينا». رجلٌ ثالث «مؤمن» أنّه «لن تركع أمة قائداها عون ونصر الله». للأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله مُحبّون كُثر هنا.
كلام إيجابي عن المقاومة، دفع بمراسلي القنوات التابعة لها إلى إبداء «الارتياح» للوجود في «ساحة حليفة». أما النقمة الكبرى، فتوجّه لحليف الأمس، سعد الحريري. انتقادات كثيرة تُكال له، وقد حَرِص رؤوف على أن «أقول لجبران إنّه إما أن يخرج مع سعد (الحريري) من الحكومة، أو يعودا معاً. لا يجوز أن نقبل بإعادة تكليفه وحده، لأنه أساساً استقال حتى يتخلص من جبران». ولكن بالنسبة إلى الأخير، «فخرنا التسوية مع مكوّن رئيس في وطننا لنحصّن بلدنا من دون أن تكون التسوية على الحسابات المالية أو مساومة على حساب الوطن». وأكد خلال كلمته أنّه «نرفع شعار «سرّية ــــ حصانة ــــ استرداد» حتى نسترد أموالنا التي تسدّ لنا عجزنا… أول عملية «أيادي نظيفة» يفرضها الشعب هي أن يُلزم كل المسؤولين والموظفين بكشف حركة حساباتهم أمام هيئة التحقيق الخاصة بمصرف لبنان، وتتشكل إذا لزم الأمر هيئة قضائية خاصة يرأسها رئيس المجلس الأعلى للقضاء». برّر للناس أنّه «فشلنا في الإصلاح بالتراضي لأن بين الفاسدين شبكة مصالح كانت أقوى من قدرتنا السياسية وحدها. وأخطأنا بأننا التهينا بالعمل والمشاريع، وكان همّنا الإنجاز أكثر من التصدي للذين يكذبون ويشوّهون صورتنا».
استمع الناس إلى كلمة باسيل، لكنّها لم تستحوذ على كامل اهتمامهم كما فعل رئيس الجمهورية. فجأة، بدأت إحدى النسوة بالصراخ: «أنا بنت ميشال عون، اسكتوا خلونا نسمع». تقفز مكانها فرَحاً، وهو يُعبّر عن حبه للجميع. أبرز في ما كلام عون، تكراره توحد الناس في ساحة واحدة، «رسمنا خريطة طريق تشمل نقاطاً ثلاثاً: محاربة الفساد والنهوض بالاقتصاد وإرساء الدولة المدنية. وهذا لا يمكن تحقيقه بسهولة ونحن بحاجة إلى جهدكم، وإلى ساحة تتألف منكم ومن كل الذين تظاهروا لتدافعوا عن حقوقكم».