كتب السفير د.هشام حمدان في صحيفة “اللواء”:
أولا: تهنئتي الصادقة لهذا النصر الأول، الذي شكل بداية عملية للتغيير المنشود في لبنان. وتهنئتي لا تذهب فقط، لكل مواطن وقف في العراء طوال الأيام الماضية مطالبا بالتغيير، بل يذهب ايضا، إلى كل مواطن لبناني مهما كان موقفه من الحراك ومهما كانت نزعته السياسية ومهما كانت نزعته العقائدية، فالتغيير القادم سيوّلد، إنشاءالله، وطنا بكل المقاييس الشرعية الدوليّة الحضارية في العالم.
وعليه، فأنني أرجو أن لا يشعر أي مواطن في الشارع، بأنه انتصر على شريحة أخرى من المواطنين، بل لنقدم هذا النصر لهم أيضا، ولنؤكد من جديد أن الحراك، هويته واحدة هي الوطن والعلم اللبناني.
مبروك من جديد، لأبطال لبنان الذين يصنعون لنا تاريخا مجيدا، أعاد لنا نحن الجيل القديم من المواطنين، وطننا الذي عرفناه في شبابنا، وكدنا نفقد الأمل أن نراه في صورته الحقيقة قبل غيابنا، رغم أن أملنا وثقتنا لم تسقط يوما، بأن ما جرى الأن سيجري في وقت ما من المستقبل. وهم أعادوا لشبيتنا التي لم تعرف لبنان سوى في الحروب والأزمات، الأمل بالوطن الذي طالما حدثناهم عنه نحن أبناء الجيل القديم.
وبالطبع، فأنني أناشد كل لبناني إلى أيّة جهة سياسية انتمى، أن يخرج الآن، لملاقاة الذين في الشارع ولتتكاثف أيدينا معا، تحت علمنا الواحد علم لبنان، وتحت شعار واحد هو بناء وطن لنا جميعا نعيش فيه بسلام وطمأنينة وازدهار. لبنان هو أحد أغنى دول العالم ليس بثرواته الطبيعية والمعدنية والتراثية فحسب، بل بإنسانه المقيم والمغترب، الذي هو عماد أية نهضة في أي بلد في العالم.
ثانيا: أنني ارجو أن يتابع الحراك دوره من دون كلل ولا ملل، فيظل جاهزا للخطوة المقبلة لكن أيضا من دون إقفال للطرقات، ومن دون أية مواجهات مع جيشنا الباسل، ومنح الفرصة للسلطة التي نريد سلميا أن نراها اقتنعت فعلا، بوجوب الإفساح أمام المحايدين لإدارة البلد.
كلنا يدرك أن هذا الحراك المبارك، لم يستهدف أي طرف في لبنان فالآخر هو لبناني مثلنا. وكما كنا نطالبه دائما، أن يأخذ بالحسبان مطالبنا، فإن من واجب الحراك اليوم، أن يأخذ بالحسبان مطالبه ويقيم معه الحوار الصادق للتوفيق بين هذه المطالب. الوطن لا يقوم على قهر أيّة مجموعة.
كلنا يدرك أن هذا الحراك المبارك، لم يستهدف السلطة في لبنان فحسب، بل أيضا استهدف كل القوى الإقليمية والدولية المعنية بلبنان. فهذا الحراك أرسل رسالة واضحة إلى الجميع، بأن لبنان يريد أن يعود إلى صفائه وتراثه كجسر حضاري بين الشرق والغرب، وكجسر تواصل بين الثقافات. البارحة، رحبت الأمم المتحدة بإنشاء أكاديمية للحوار والتلاقي الإنساني في لبنان، فلنحول معا، هذا الترحيب إلى قرار بأن تقيم الأمم المتحدة ذاتها، هذه الأكاديمية، وتطلق من على أرض لبنان،هذا الحوار وهذا التلاقي المنشود بين مختلف الحضارات والثقافات في العالم.
وعليه فإنني أسمح لنفسي ان أبدأ هذا الحوار مع الآخر لأقول، أن لبنان لا يمكن أن يكون في أية سلة خارجية، ولبنان لا يمكن أن يظل ساحة الحروب والصراعات المسلحة. لبنان قدم الضريبة كاملة ومنذ عام 1969، عندما اتفق العرب وقوى العالم بما في ذلك العالم الديموقراطي الغربي، على تحويل هذا البلد الديموقراطي والمزدهر الصغير لبنان، إلى ساحة الصراع العسكري الوحيد «للمقاومة» الفلسطينية مع إسرائيل. وهو للأسف، تحول بعد انهيار «المقاومة» الفلسطينية فيه، وانتصار المقاومة الوطنية اللبنانية التاريخي عام 2000، إلى ساحة «للمقاومة» ضد الشيطان الأكبر وغيره. ومهما يكن الهدف نبيلا من مثل هذه المقاومة، فلبنان لا يمكن أن يتحول إلى ساحة للحروب الإقليمية والدولية. نحن شهدنا على فصل صغير من آثار هذه الحرب تمثلت في عزل لبنان اقتصاديا حتى أوشك أن ينهار، فكيف إذا أصبح ساحة اقتتال عسكري كما يجري في الدول المجاورة الأخرى؟
لذلك فأنني أدعو مجددا إلى تحييد لبنان عن الصراعات العسكرية. الحياد لا يعني أننا نخرج من ثوبنا القومي بل يعني أن نتوقف عن التضحية المجانية ببلدنا، ونعيد رسم دوره كوسيط حضاري، يساهم في منع أية مشاريع تفتيتية وتقسيمية طائفية في المنطقة ويساهم بعقل إنسانه أن يدفع بمبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان التي ساهم برسمها من خلال مساهمته الفاعلة بإطلاق شرعة حقوق الإنسان وإطلاق شرعة المحكمة الجنائية الدوليّة.
وبالطبع فإن حيادنا لا يعني بتاتا الاستسلام للعدو الصهيوني، بل أنه يهدف إلى تحويل الشعار الثلاثي الجيش والشعب والمقاومة، إلى شعار عملاني حقيقي من خلال إقامة استراتيجية دفاعية على غرار ما فعلته سويسرا، النموذج الراقي للحياد في العالم، فأصبح لديها ثاني أقوى جيش في العالم بعد إسرائيل لجهة تلاحم المدنيين مع جيشهم في الحالات الدفاعية الطارئة عن سيادة ومصير الوطن. وبمثل هذه الاستراتيجية يمكن الاستفادة من أولئك الأبطال الذين رسموا بتضحياتهم، سياجا أمنيا للبنان في وجه ذلك العدو، مع المحافظة على وجهنا الحضاري كدولة عضو في الأمم المتحدة تحترم التزاماتها كما تدافع عن حقوقها المشروعة.
أناشد الجميع أن يعمل بهذا الاتجاه، فنعيد لبنان ركيزة للفكر والعلم والحوار الحضاري، ونموذجا حيّا، عن ديمقراطيتنا الرسخة، وتمسكنا بالحريات، وندفع لأن يعود بلدا مزدهرا غنيا يصل فيه الدخل الفردي إلى أكثر من 20 ألف دولارا كما هو في سويسرا وغيرها. فنعيد المغترب، ونعيد إخواننا العرب، ونعيد الاستثمارات، ونعيد القوة لعملتنا الوطنية من دون أن نخسر شيئا من مواقفنا العادلة والحقوقية المشروعة. بل يمكن لنا أن نكون مركزا للمنظمات الإقليمية والدولية ومركزا للحوار بين الأطراف الراغبة بالحوار في منطقتنا، فلماذا يذهبون إلى الأستانة وجنيف وغيرهما، لما لا تكون بيروت التي هي العاصمة الشقيقة والصديقة للجميع في هذه المنطقة، مركزا لمثل هذه الحوارات.