Site icon IMLebanon

انتفاضة 17 تشرين الاول لم تفشل.. لكن “حفنة التسلط” لم تسقط

ليس من قبيل المبالغة الإستنتاج أن «الانتفاضة الشعبية الواسعة» احدثت زلزالاً كبيراً في المجتمع اللبناني، من الطبيعي ان يترك رسوماً محدّدة لمسار الأحداث في الأشهر القليلة المقبلة، على صعيد مستقبل النظام السياسي، والنقدي، وحتى الحزبي، فضلاً عن الأنظمة الإدارية، وموقع لبنان في خريطة المنطقة، وعناصر القوة في نقاط المركز الدولي، والإقليمي، فضلاً عن مصائر «الدول الرخوة»..

لم تتمكن الانتفاضة الشعبية من إخراج البلد من كونه «دولة رخوة»، نادراً ما تنجو من هزة هنا أو هزة هناك، الأمر الذي طرح قلقاً معقداً في مصير الانتظام اللبناني، كمجتمع، ودولة ومصائر…

شكلت انتفاضة 17 اكتوبر (ت1) 2019، اللبنانية نقطة تحوُّل استراتيجي في المسارات والخيارات، وهزت على نحو، غير قابل لإعادة «التلزيق» أو الترقيع سلسلة من الصيغ التي تحكمت بأنظمة الحياة، التي سادت في هذا البلد، الذي لا تنفك مجمعاته البشرية أو طوائفه، تمارس شتى اشكال الانفكاك عن نظام ارتضته، أو أرض تسكن عليها، ونظام تقره ولا تحترمه..

من الخطأ الإعتقاد، لوهلة أولى، أو ثانية، وحتى ثالثة، ان الانتفاضة الشعبية، حققت أهدافها، أو اقتربت منها، أو القول، بالمقابل انها انهزمت.. الحركة الشعبية لم تنهزم، ومن الصعب التصديق ان حركة شعبية غير قادرة على تغيير صيغ أو إعادة بناء صيغ جديدة..

ومع ذلك، فإن ما حققته الانتفاضة الشعبية، التي بدا ان رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، المطلوب «رقم 1» لهذا الحراك، في وجهه المعلن، والأوجه الأخرى غير المعلنة، كمثل تهاوي «التسوية الرئاسية» التي قضت بأن يصبح ميشال عون رئيساً للجمهورية، مقابل ان يكون نبيه برّي رئيساً لمجلس النواب، وسعد الحريري رئيساً لمجلس الوزراء، بانتظار انتهاء ولاية «الرئيس القوي»، الذي هو على «رأس الجمهورية القوية»، «بدعم من تكتل لبنان القوي» إلى جانب رئيسين قويين في طائفتيها: برّي القوي عند الشيعة، مدعوماً بحزب الله، القوى الأكبر عسكرياً، في لبنان والمنطقة، والحريري القوي عند السنَّة، بعدما كان الأقوى «مالياً.. وبدعم دولي منقطع النظير..

بدا أن ما حققته «الانتفاضة الشعبية»، هو سقوط «نظرية الأقوياء في طوائفهم» التي حاولت ان تبني عقداً اجتماعياً جديداً، مكان اتفاق الطائف، فهوت إلى غير رجعة، وبدا مشهد الطوائف والتيارات المنبثقة عنها بالغ الوجع، في صيرورة لبنان الدولة والمجتمع والاقتصاد، و«جنة النظام الاقتصادي الحر»..

عبرت عملية تهاوي أفكار جبران باسيل، التي شكلت بدورها، أكبر عملية سطو على الدولة ومؤسساتها، واكبر عملية تلاعب بدستور الطائف، الذي وضعت مواده، للحد من عودة «رجل» إلى السلطة يمارس الانفراد، أو يحاول صياغة مجتمع متعدّد، على صورته ومثاله..

توارى جبران باسيل عن الأنظار، وانزوى يراجع حساباته، أو يحاول ترميم التسوية، في محاولة لإعادة ترميم موقعه، ولو من باب الحفاظ على عودته إلى الوزارة الجديدة.. وغاب عن بال الرجل، ان أداءه غير الميثاقي، والاستفزازي، والتلاعبي، حوَّله في نظر جمهور اللبنانيين، الذي عكست صيحاته في الأزمة والشوارع، إلى طائفي، تسلطي، وأيضاً عنصري، في نظر الفائزين في مباراة مجلس الخدمة المدنية، ومأموري الأحراج، وحتى أساتذة الجامعة اللبنانية، حيث ردّ قانون استفادتهم من قانون الخمس سنوات، وبقي مرسوم الاستفادة من القانون 22/82، يقبع في ادراج غرفة الاوضاع، الموازية لدراسة الاقتراحات ومراجعة المراسيم..

يُشكّل هذا النوع من التسلط على الدولة، علامة فارقة في خلافات اللجان الوزارية، واجتماعات مجلس الوزراء لدراسة موازنة 2019، وما بعدها وصولاً إلى تفادي الرئيس الحريري، مرات عدّة قلب الطاولة في مجلس الوزراء.

هدَّد باسيل بقلب الطاولة، فقلبت الطاولة على رأسه في الشارع.. وبدل ان يحتفظ باستقالات وزراء التكتل، الذين وقَّعوا على تعهدات الاستقالة في الوقت المناسب.. نجح الشارع بإطاحة باسيل وفريقه مرّة واحدة..

واجه حزب الله لحظة الحقيقة المرَّة في الشارع.. انتفض جمهور الفقراء على اغنيائه، الذين صاروا «أوليغارشية» حاكمة، شرسة، انانية، متوحشة، اعتبر الأمر في اوله، وكأنه ردَّة فعل على «سنتات» محمّد شقير حول (WhatsUp)، وسرعان ما عكست شعارات «كلن.. يعني كلن» مدخل التحوُّل في قراءة «حزب الله» «للحدث الصاعق».. تغيَّرت التقييمات، مع مجيء قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني إلى لبنان، مسبوقاً باندلاع التحركات المماثلة في العراق، ليخلص التقييم إلى ان ما يجري له أبعاد في صراع محور المقاومة مع «العدو الأميركي» وخلفه أو أمامه، أو عن يساره، أو يمينه «العدو الصهيوني»، أو الكيان غير الشرعي، الذي يعدّ ايامه، بتعبير أدبيات المحور، فإذا سفارات وراء الانتفاضة،التي عبَّرت عن نفسها بوجع النسوة والأطفال، والمعاقين، والعاطلين عن العمل، وجيل الشباب الذي يخرج من الجامعة أو الجامعات، ليضع شهادته الإجازة أو الماستر، أو حتى الدكتوراه على رفّ من الرفوف أو جارور من جوارير الخزائن القديمة في منازل هؤلاء، الذين ضاقت بهم فرص العمل، حتى في بلدان الاغتراب.. والمهاجر.. فإذا هم يتكدسون، في المنازل والملاهي، وحتى في الطرقات، بحثاً عن فرص العمل المستعصية، رغم استخدام أجهزة الخليوي، واكل الطعام المصنوع في المطاعم أو المنازل أو السفارات؟!!

خرج حزب الله من الساحات، في اجزاء يُمكن وصفه بالديمقراطي، ومع ذلك، ظهرت مواقف، لم تكن مستساغة من جمهور الانتفاضة الشعبية، لكن الحزب، الذي لجأ إلى خطوات غير مسبوقة، مثل تدخل شرطة بلدية النبطية في فض الاعتصام الأهلي امام السراي في المحافظة بقوة، الحديد والنار ولجوئه إلى التدخل بالعصي والساكين، والحجارة ضد تظاهرة بالغة التواضع، من نسوة واطفال امام سراي بنت جبيل، أو «مدينة الشهداء» حيث تحت هذا المسمى تفرق عناصر التظاهرة، بعد طعن بالسكاكن، وتهديدات باستخدام السلاح..

كان المشهد بالغ الاستياء في مُدن الجنوب وقراه.. المقاوم تأكل المقاومة أو تقمعها..

خرج حزب الله من الانتفاضة «مدمّى» إذا صحَّ القول، فانكفأ إلى «معادلة الثنائي» يبحث عن عزاء.. وهو المستهدف بقوة من وراء انفلات الوضع اللبناني على أزمات غير قابلة للمعالجة. كمثل العجز من السيطرة على الدولار، أو العجز من الخروج من المأزق السياسي..

وإذا كان حزب الله «اسقط من يده» في السيطرة على الانتفاضة، وإدارة الملف السياسي و«الحراكي»، فإنه الآن، يحاول ترميم الأذى الشعبي الذي أصابه من التحوّل إلى «قوة قمع» لطموح النّاس إلى تغيير واقعهم المؤلم..

بدا الحريري الابن، امام اختيار، لا سابقة له، أحسن إدارة العلاقة مع الشارع.. سارع إلى «تنفيس الاحتقان».. بعدما رفض المسّ بالمتظاهرين..

من المؤكد ان انتفاضة 17 اكتوبر اللبنانية لم تنهزم تماماً، لكن الحراك المضاد في الشارع، أعاد رسم التخوم الطائفية حول حدود الجغرافيا الطائفية من الجنوب إلى الشمال.

اندفع تحالف الثنائي: حزب الله- التيار الوطني الحر، يبحث عن مكاسب لتقليل الخسائر الكبرى التي مُني بها مجتمعاً أو متفرقاً..

وبانتظار «اسابيع البحث الشاق» عن المخارج تأكّد للجمهور المنتفض ان الخلاص لن يأتي عن طريق هذه الطبقة، ولا أبطالها، ولا أربابها، بل عن طريق النضال الهادئ والصلب، وربما الدامي..

ومن المؤكد ان تقويض نظام الطبقة السياسية كأحد النتائج المباشرة للتحرك المستمر، سيكون بلا معنى، ما لم تتحطم مقومات «سلطة الأوليغارشية» التي مارست الحكم، ولا تزال، بوصفها طبقة كانت أكثر وحشية وشراسة، ونهم، حتى لو لبست لبوس الديمقراطية والنظام اليبرالي الحر؟!