كتب د. مصطفى علوش في صحيفة “الجمهورية”:
«لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآت العيش قبل الأوان»
أحمد رامي، رباعيات الخيام.
الثابت تاريخيًا أنّ القبائل اليونانية بدأت تكوّن ما يسمّى «المدينة الدولة» التي تمثل توصيفًا لشكل المجتمعات اليونانية في ذلك الوقت. ولقد برزت أثينا ضمن تلك المدن لموقعها الاستراتيجي، كما أنّها ملكت كثيراً من الأراضي الخصبة بالمقارنة مع باقي المدن، وهو ما سمح لها بتكوين نظام اقتصادي متوازن بين التجارة والصناعة والزراعة، ما أثّر مباشرة على شكل المجتمع وأسّس لنشوء الطبقات الإجتماعية فيه.
بدأت أثينا بنظام ملكي، ومع التطور الاقتصادي بدأت الطبقات المختلفة تسعى لدور في التنظيم السياسي، وهو ما دفع النبلاء لتكوين مجلس لهم استطاع مع مرور الوقت التعدّي على السلطات الطبيعية للملك. هذا الامر فتح المجال للتحوّل نحو نظام يسمّى في العلوم السياسية بالنظام الأوليغارشي، حيث تحكم قلة من الناس الكثرة منهم، فسيطرت طبقة النبلاء على الدورة الاقتصادية في البلاد، وكانت أن أفلست الطبقة الفقيرة بسبب المديونية التي أدّت الى تحوّلها من مزارعين إلى عبيد، مع مرور الوقت. كان ذلك كفيلاً بدفع التغيير السياسي عبر ثورة، إلى أن عيّن الوالي سولون لإدخال الإصلاحات على النظام السياسي اليوناني، فأنشأ مجلس الأربعمائة للمساهمة في الحكم، بما يسمح بدخول الطبقة الوسطى والدنيا في النظام السياسي، كما أُنشئت محكمة عليا يُصار إلى انتخابها من بين المواطنين، إضافة إلى إلغاء العبودية الناتجة من المديونية وتحديد ملكية الأراضي ومنح المقيمين حقّ المواطنة، كما فرضت منع البطالة.
هذا لم يمنع من ظهور الديكتاتورية مرة أخرى، وأدّى إلى قيام كلايسثينيس بوضع حدّ للسلطة المطلقة بالانقلاب على آخر الطغاة، وصوغ نظام سياسي جديد، وسّع المجلس ليضمّ خمسمئة عضو يُختارون بالقرعة، وهو ما شكّل بداية لمفهوم السلطة التنفيذية، حيث تنبثق منه عشر لجان معنية بإدارة الدولة. بقي مجلس النبلاء بوصفه أداة شبه تشريعية، يحق لها رفض أو قبول مقترحات وسياسات مجلس الخمسمائة. كذلك نصّت التعديلات على تنظيم الانتخابات لهذه المناصب بشكل دقيق منعًا للتفرّد في القرار، وأصبحت الجنسية حقًا للجميع على أساس الإقامة في أثينا. بعدها، وصل هذا النظام إلى قمته خلال حكم الزعيم اللامع الحكيم بيريكليس، وغدا النموذج الديموقراطي الأكثر تنظيمًا في أثينا، وصار يحقّ للمجلس اقتراح القوانين. وبات أول نظام يضع معايير التوازن وتوزيع السلطات، خصوصاً بعدما صاغ نظامًا قضائيًا تحت إشراف المحكمة العليا، وجرى تثبيت نظام المحلفين بالقرعة، بحيث تؤخذ قرارات المحاكم من خلال حكم المواطنين أنفسهم بالأغلبية المطلقة. ومن هنا اقتبس نظام المحلفين المتّبع في كثير من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا.
غير أنّ الحرب الطويلة مع اسبارطة أضعفت أثينا بشكل كبير ووضعت عليها الضغوط الاقتصادية والسياسية، بعدما لجأت أثينا لسياسة توسّعية إمبريالية، انتهت بخراب أثينا وسيطرة إسبارطة على مقاليد السلطة في شبه الجزيرة اليونانية.
وهكذا وئدت التجربة الديموقراطية اليونانية وعاد الحاكم المستبد. لكن فكرة الديموقراطية بقيت موثقة في الأدبيات والتراث اليوناني، بالرغم من انتقاد الثلاثي الأثيني المتمثل بسقراط وأفلاطون وأرسطو للديموقراطية، حيث يحكم الجاهل فيها على العاقل بما يسمّى اليوم الشعبوية.
كان هذا إلى أن عادت فكرة الحكم الديموقراطي بفضل عوامل التغيّر الاجتماعي والسياسي والثقافي والعلمي بداية من القرن السادس عشر، حتى رسّخت مفهوماً للفكر والتطبيق بحلول القرن العشرين.
الديموقراطية الحديثة تخطّت منطق حكم الأكثرية، بعد تجارب أوصلت طغاة جدداً عن طريق الديموقراطية الشعبوية، ما أدّى إلى اضطهاد الأقلية وقمعها، وأحياناً تجريد حملات إبادة بحقها. الديموقراطية اليوم تستند إلى الحفاظ على حقوق الأقليات بمختلف أشكالها، والحفاظ الدستوري على المعارضة الفاعلة القادرة على مراقبة سلطة الأكثرية ودفعها إلى الترقّب من الخطأ في الحكم لمعرفة السلطة بأنّها مكشوفة بشكل كامل. من هنا استقلالية القضاء والمجالس الدستورية عن السلطة لكي تتمكن من اداء دور الحكم بين السلطة والمعارضة.
وجود معارضة قوية ومحمية يؤمّن، إلى مراقبة الحكم، انتقال السلطة بشكل سلس من خلال معارضة قادرة وجاهزة على تسلّم إدارة الدولة من دون المرور بفراغ قاتل أو ثورات تقضي على الغث والثمين.
لكن أين نحن من الحكم الديموقراطي الحديث؟
علينا أن نعترف اليوم، أنّ منظومة الحكم في لبنان منذ الإستقلال لم تأخذ من الديموقراطية إلّا صناديق الإقتراع، وأبقت على نظام الحصص بناءً على مبدأ الميثاقية الطائفية، حيث لكل طائفة حصتها من خلال نسبة لها في السلطتين التنفيذية والتشريعية. وكان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى وجود معارضة قوية لو أنّ السلطة التنفيذية خاضعة لمحاسبة معارضة برلمانية. يعني أنّه كان من الممكن إنشاء حكومات متوازنة طائفياً حسب الدستور، ولكن من خلال تحالفات سياسية يمكن أن تقصي، ولو موقتاً، قوى تمثل طوائفها سياسياً. لكن طرح مبدأ الميثاقية بشكله المعوّج، أدّى حسب التجربة المرّة الطويلة، إلى إلغاء دور السلطة التشريعية كمحاسب ومراقب معارض، وبقي نوع من الفولكلور المسرحي لمعارضة كلامية بصولات وجولات النواب في جلسات مجلسهم.
ما أريد قوله الآن، هو أنّ القاعدة الأهم لمحاربة الفساد تكون بتحرير المجلس التشريعي من الميثاقية الهزلية وصولاً إلى تحرّر كامل من طائفية المجلس النيابي حسب اتفاق الطائف، وبالتالي يمكن أن نشاهد قوى وأحزاباً سياسية متحرّرة من القيد الطائفي يمكنها إنشاء حكم يحكم بالفعل، ومعارضة تحاسب بالفعل.
أما ما نراه اليوم فهو حكومات تسوّغ عجزها بمعارضة ويعطل بعضها بعضاً تحت لواء الميثاقية، فتسمع مسؤولاً يقول بكل ثقة، وهو يملك ما يملك من وزارات «لم نحقق برنامجنا لأنّهم ما سمحولنا!».
ما نحتاج اليه اليوم هو ليس قراءة المادة 95 في الدستور، بل قراءة دستورية في معنى الميثاقية، وكيف المحافظة عليها من خلال الحفاظ على حقوق الأقلية وحقّها في المعارضة بدل الإصرار على المشاركة في الحكومات وتعطيلها تحت شعار الميثاقية.
كيف؟ لنطبّق دستور الطائف بأكمله.